"باب الأبواب" وثيقة أدبية تحاول أن تحفظ الذاكرة الجمعية وسط ركام الحرب

يوسف دعيس يكتب شهادة أدبية مليئة بالتساؤلات الوجودية.
الأربعاء 2025/02/26
آثار الحرب لا تمحى بسهولة (لوحة للفنان تمام عزام)

ما حدث في سوريا من أهوال بعد 2011 دفع العديد من الروائيين إلى التفاعل معه، فكُتبت العشرات من الأعمال الروائية التي حاولت توثيق التراجيديا السورية من زوايا مختلفة، منها روايات غرقت في التوثيق وأخرى اختارت مسارات أخرى لسبر الأعماق النفسية والتحولات الداخلية للسوريين، ومن هذه الروايات "باب الأبواب" للكاتب السوري يوسف دعيس.

تشكل رواية “باب الأبواب” للكاتب يوسف دعيس شهادة أدبية حية توثق واحدة من أكثر الفترات دموية في تاريخ سوريا الحديث، حيث تتناول الحرب والثورة والتحولات العميقة التي طرأت على المجتمع السوري، وبالأخص في مدينة الرقة.

 الرواية لا تكتفي بسرد الأحداث، بل تحفر في الجذور التاريخية، وتعيد رسم ملامح المكان والإنسان عبر أسلوب يجمع بين السرد الكلاسيكي والتقنيات الحديثة، ما يجعلها عملا روائيا متكاملا يعكس معاناة الفرد والمجتمع في ظل أهوال الحرب والنفي واللجوء.

أحداث وتساؤلات

◙ الرواية لا تكتفي بسرد الأحداث وتوثيقها بل تحفر عميقا في الجذور التاريخية وتعيد رسم ملامح المكان والإنسان
◙ الرواية لا تكتفي بسرد الأحداث وتوثيقها بل تحفر عميقا في الجذور التاريخية وتعيد رسم ملامح المكان والإنسان

منذ الصفحات الأولى يجد القارئ نفسه في مواجهة تاريخ مدينة الرقة، التي شكلت مركزا حضاريا مهما منذ العصر العباسي، مرورا بالمراحل السياسية المختلفة حتى زمن الحرب السورية. ويظهر هذا التوثيق جليا من خلال شخصية عطاء الله الحسني، بطل الرواية، الذي يمثل السوري العالق بين ماضيه العريق وحاضره المضطرب.

يتميز البناء السردي في الرواية بتناوب السرد بين الراوي وعطاء الله، ما يمنح النص حيوية ويكشف عن البعد النفسي العميق للشخصيات. كما يبرز في النص البعد الصوفي، الذي يتجلى في إرث البطل الروحي وتأثره بجده الأكبر شامل الدربندي، العراف الذي عاش في زمن السلطان سليمان القانوني، والذي شكلت قصته امتدادا لرحلة البحث عن المعنى وسط الفوضى.

تمتاز الرواية بلغتها العذبة والمتقنة، حيث ينجح يوسف دعيس في المزج بين المفردات التراثية والحديثة، ما يضفي على النص طابعا حيويا. وتبرز قدرة الكاتب على نقل المشاهد بأسلوب تصويري يعكس تفاصيل الحياة اليومية في الرقة قبل أن تلتهمها الحرب.

لكن مع تقدم الأحداث، يتحول السرد إلى انعكاس لمأساة الشعب السوري، من القصف والاعتقالات إلى لحظات القهر في المعتقلات، وصولا إلى سيطرة داعش على المدينة وما تبعها من مشاهد الرعب والدمار.

يعكس النص كيف تحولت الثورة من حراك سلمي إلى صراع مسلح، وكيف لعبت القوى الإقليمية والدولية دورا في تفكيك النسيج الاجتماعي والسياسي للبلاد.

ولا تقتصر الرواية على سرد الأحداث السياسية فقط، بل تتناول أيضا التأثير النفسي العميق للحرب، حيث نجد البطل يعاني من اضطرابات نفسية، مثل القلق ونوبات الهلع، وهي أمور تعكس تجربة اللجوء السوري وما خلفته من صدمات نفسية لأجيال كاملة. وبهذا، لا تنتهي الرواية عند توثيق الأحداث، بل تطرح تساؤلات وجودية حول المصير والهوية والمنفى، حيث يجد عطاء الله نفسه في مدينة أورفا التركية، غريبا عن وطنه، محاصرا بذاكرته، وكأنه يحمل سوريا في داخله رغم المسافات.

التوثيق والبعد النفسي

12

من حيث الشخصيات، نجد أن الكاتب استطاع أن يمنح لكل شخصية أبعادها النفسية والاجتماعية، إلا أن بعض الشخصيات الثانوية ظلت أحادية البعد، خاصة شخصيات بعض الفصائل المسلحة، حيث لم يتم التعمق في دوافعها النفسية بشكل كاف.

كذلك، رغم قوة السرد قد يشعر القارئ أحيانا بأن الرواية تميل أكثر إلى التوثيق الصحفي، وهو ما يجعل بعض أجزائها أقرب إلى السرد التقريري منه إلى الحبكة الروائية الدرامية. كما أن كثرة المشاهد القاسية قد ترهق القارئ عاطفيا دون أن تضيف دائما تطورا جديدا للأحداث.

في النهاية، يمكن القول إن “باب الأبواب” ليست مجرد رواية، بل هي شهادة على الألم السوري، ووثيقة أدبية تحاول أن تحفظ الذاكرة الجمعية وسط ركام الحرب والنفي والضياع.

يوسف دعيس نجح في تقديم عمل روائي متكامل يجمع بين التوثيق والتأريخ والبعد النفسي، ليترك للقارئ تجربة مؤثرة تتجاوز حدود الأدب

نجح يوسف دعيس في تقديم عمل روائي متكامل يجمع بين التوثيق والتأريخ والبعد النفسي، ليترك للقارئ تجربة مؤثرة تتجاوز حدود الأدب إلى مساحة الحقيقة والوجدان. لمن يبحث عن قراءة تفتح الأبواب على مأساة العصر السوري، فإن “باب الأبواب” تستحق أن تُقرأ بتمعن.

الجدير ذكره أن الكاتب عضو في رابطة الكتاب السوريين، عمل في مجال التعليم معلما لمدة عشر سنوات، ثم انتقل إلى العمل في الصحافة السورية، مراسلا لصحيفة “الفرات” المحلية، ثم مراسلا لموقع سيريا نيوز الإلكتروني، ومسؤولا عن موقع Eraqqa (مدونة وطن) Esyria ثم مديرا للمكتب الصحفي لمحافظة الرقة منذ عام 2004 إلى غاية 2011، وحصل على العديد من الجوائز في مجال القصة القصيرة (مسابقة البتاني، ومسابقة اتحاد الكتاب العرب).

وقد صدرت له مجموعة قصصية (قصص عربية) عن وزارة الثقافة السورية بعنوان “امرأة الماء” عام 2001، وله تحت الطبع مجموعتان قصصيتان الأولى بعنوان “يوميات لاجئ سوري في أورفا”، أما الثانية فهي بعنوان “مارغو”.

236

13