"بابو" العجيب فتى عاش زمنين بشخصيتين مختلفتين

حياة العراقيين منذ أواخر القرن العشرين وإلى غاية اليوم ليست سهلة، وخاصة من شرّدتهم الظروف في المنافي والأقاصي البعيدة عن الوطن الذي يعاني بدوره، وهذه الحياة رغم قسوتها فإنها تمنح المبدعين ومنهم الكتّاب دفعا قويا لإبداع أعمال مختلفة، فنجد مثلا في الروايات التي يكتبها العراقيون مناخات مختلفة كليا. وهذا ما نعثر عليه في رواية "بابو" للعراقي فيصل عبدالحسن.
أكتب عن هذه الرواية لا لقلة من كتبوا عن روايات ومجموعات قصصية كتبها فيصل عبدالحسن، من أساتذة ونقاد كبار طوال الأربعين سنة الماضية، لكنني أكتب عن هذه الرواية بالذات لأن فيها الكثير من الأحداث التي عايشتها في أسرتنا منذ طفولتي، وشبابي وخلال دراستي للصحافة في المعهد العالي للصحافة بالرباط.
وشاركت في أحداثها وهزتني الوقائع التي عشتها وأنا أرى أخي الذي يعاني من عدة إعاقات في طفولته، وهو لا يستطيع تناول الماء من يد أمي أو أبي إلا قطرة قطرة، وإلا تعرض للاختناق والموت. ولتنفيذ توصيات الأطباء كان السهر معه ضروريا معظم الليل لقضاء حاجاته، وكنا كأسرة تتوقف كل حركاتنا ونحن نراقب والدينا وهم يعتنيان بأخينا الصغير عند تناول طعامه أو شرابه، وفي كل لحظة نشعر بملك الموت يحوم في فضاء بيتنا. ربما هذه التفصيلات المريرة من حياة “بابو” في الرواية غير مذكورة، لضرورات فنية ارتآها الكاتب بحكم خبرته الطويلة في الكتابة الروائية، وهي روايته الثامنة أو ربما حتى لا يستعيد ألام تلك الذكريات.
الطفل المعجزة
رواية بابو ليست فقط حكاية فرد عراقي يعاني من إعاقة، إنها حكاية شخص عاش حياة المنفى بطاقات خارقة ذكرتنا بالشخصية العراقية المتحدية لظروفها الصعبة عبر التاريخ، وبدت لقارئ أخبارها والسامع تفصيلات حياتها أنها كانت حياة طفل يمتلك طاقات خارقة، وأنه نال مميزات فوق الطبيعية في طفولته أهلته ليقوم بكل تلك الأدوار خلال حياته القصيرة فيما بعد، ومن المتوقع لحياة هؤلاء الخارقين للعادة أن تكون مملوءة بالمغامرات والنجاحات والإخفاقات لكنها في كثير من الأحيان تنتهي بشكل دراماتيكي.
يقول الناقد جمعة عبدالله عن الرواية “إنها ملحمة جيل كامل من العراقيين الذين غادروا بلدهم العراق إلى المنافي البعيدة، وعانوا الحرمان وروَّضوا قدراتهم الذاتية ليفوزوا أخيرا بما حلموا به: الحب والمال والشهرة.”
سحر شخصية بابو لا ينبع من إعاقاته المتعددة وحياته المملوءة بالفرص الصعبة والمغامرات، والخسارات بسبب الخيانات التي يتعرض لها من أقرب المقربين له، بل إن سحره الشخصي يأتي من لطفه ورقته وحبه للناس، وعمله للخير في كل مناسبة، وباختصار إن الحياة تبقى بالنسبة إلى بابو وأمثاله الموقد الذي يصنع فيه الأمل والنجاح والفرح في النهاية، مهما بلغت فداحة الخطوب التي تواجههم، ليخرجوا بعد كل ذلك كالخبز الساخن طيب المذاق يحتاجه الجميع في كل زمان ومكان.
يقول الكاتب عن روايته ”بابو أهم عمل كتبته خلال الخمس سنوات الماضية عن حياة طفل مبارك يلقبه الأهل والجيران بـ‘بابو‘، الطفل المعجزة، الذي كبر وله قدرات تفوق قدرات البشر العادية، مما يسمى عند هذه الفئة من الأطفال في الغرب بالتأخر المعرفي، ونمو ظواهر معرفية خارقة للعادة لدى هذا النوع من الأطفال بدلاً مما فقدوا من حواس طبيعية”.
ويضيف “أمضيت الكثير من الوقت وبذلت الجهود المضنية، لدراسة ميدانية ومعرفية لهذه الحالات الغريبة والخارقة لدى هؤلاء الأطفال، ومنهم على سبيل المثال ولدي، الذي أصيب بالإعاقة بعد ولادته مباشرة، فكانت معاناتنا الطويلة في تتبع حالته الصحية والبحث عن علاج له، ومحاولة تقويم حالته وجعل أثارها أقل ما يمكن على حياته ومستقبله، وفي خلق فرص تعليمه وابتكار الأسباب لسعادته، وتمكينه للعيش، وقد كانت من أشق المهمات، خصوصاً خلال غربتنا كأسرة وبصحبتنا هذا الفتى الذي يحتاج إلى رعاية خاصة، ومما زاد الصعوبات تنقلنا من بلد إلى آخر بسبب ظروف بلدنا العراق، التي امتدت لأكثر من ربع قرن في بلدان عربية من بينها المغرب.”
تنتمي الرواية إلى ما يسمى بالرواية القصيرة، (short novel) لكنها محملة بأريج ربع قرن من الفكر والمعاناة والأحداث المتتابعة سواء في الوطن الأم ـ العراق ـ أو في الوطن البديل، الذي امتد على مساحة شمال أفريقيا ابتداء من مصر وليبيا وتونس وانتهاء بالمغرب.
إن الكتابة عن غربة العراقي وأسرته الذي ترك وطنه لأسباب خارجة عن إرادته مصطحبا معه وطنه المختصر بحقيبة سفر، فيها ملابسه وملابس أسرته وكتبهم الأثيرة، و”صُرّة الكليجة” العراقية التي يحملونها معهم كحرز أينما حلوا، ففيها رائحة الأهل والوطن والعادات والتقاليد وأضافوا إلى هذا الكم من المعاناة: طفل يعاني من إعاقات مختلفة.
الحب المستحيل
سحر شخصية بابو لا ينبع من إعاقاته وحياته المملوءة بالفرص الصعبة والمغامرات والخسارات بل من قدراته العجيبة
من أكثر فصول الرواية دينامية ورومانسية عشق بابو لصفاء، الفتاة الجميلة الهادئة التي تعيش وأسرتها في جوارهم. “كان ينتظر صفاء تمرّ من أمام البيت ذاهبة إلى مدرستها، فتلقي عليه التحية بإشارة من يدها وابتسامة حيية فوق ثغرها، كأنما تكافئه بهذه الإشارة والابتسامة والنظرة الحانية من عينيها، فيشعر بابو أن الحياة ردت إليه، وابتسامتها شعت نورا في روحه، نورٌ صَدَرَ من عينيها الواسعتين ليقع على كامل جسده الرقيق فأعاد له الابتسامة المضيئة”
سطور رقيقة من الكلمات تحكي قصة الحب المستحيل، بين فتى معاق وفتاة جميلة في كامل أنوثتها وجمالها، تذكرنا مشاهدها السردية بقصص حب مشهورة غير متكافئة، كقصة حب المفكر الفرنسي الكسيس كاريل، الذي نال جائزة نوبل سنة 1912 والذي أحب زوجته حباً جماً، لكنها ماتت عذراء، والفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، الذي لم يعط وعدا لفتاة، ولم يرتبط بأي علاقة مع امرأة طول عمره إلا واحدة أنكرته، والشاعر الإيطالي المشهور دانتي، صاحب كتاب “الكوميديا الإلهية” الذي كان يحب فتاة ففضلت عليه عمدة البلد، وقضى علاقته الطويلة معها وهو لم يلمس كفها. أما من العرب، فهناك الكثيرون من هؤلاء العاشقين كقيس بن الملوح عاشق ليلى، وقيس بن ذريح عاشق لبنى، وجميل بثينة وكثير عزة وغيرهم، وكلهم قضوا ولم ينالوا من حبيباتهم ما كانوا يتمنونه!
تتناول الرواية طفولة بابو، التي اتصفت بالظواهر الخارقة، وقد اعتقد الجيران أن بابو يمتلكها كقدرته على شفاء المرضى بالخط بعود كبريت على ذراع المريض منهم، وكذلك خوف أسرته عليه من الذين يمارسون السحر والشعوذة كونه يملك عينين زهريتين، وهما ما يبحث المشعوذون عنهما لدى الأطفال، ليقوموا بخطفهم.
يعود بابو سنة 2006 إلى وطنه مع أسرته بعد تحقيقه ثروة وصار مليونيرا من وسائل التواصل التي برع في استخدامها منذ يفاعته، ليواصل عمله التجاري في وطنه، مما جعله يعيش في ظروف بلد يعاني من انعدام الأمن وتغيير في بعض القيم والعادات التي كان يتحدث عنها والده وأمه، كالمحبة وقيم الوفاء بين أفراد الأسرة، فقد وجدت الأسرة نفسها وجهاً لوجه أمام جشع غير مسبوق لجمع المال بكل السبل المشروعة وغير المشروعة.
رواية “بابو” العجيب الذي عاش زمنين وبشخصيتين مختلفتين، هي من نتائج أحداث ملتبسة مرَّ بهما العراق.
يذكر أن رواية “بابو” صدرت عن دار الشؤون الثقافية في بغداد 2024.