بؤر المقاومة المفككة

ميليشيات إيران في العراق واليمن مثل حزب الله اللبناني تتباكى ليل نهار على فلسطين والأقصى والمقدسات، ولكن صواريخها لا تطلق إلا على السعودية أو على قوات التحالف الدولي ضد داعش.
السبت 2021/05/29
بؤر مفككة لا يجمعها إلا الراعي الإيراني

من أبرز المكاسب التي خرجت بها إسرائيل في حربها الأخيرة مع حركة حماس بقطاع غزة، هو اليقين بأن جبهات “المقاومة” التي “تخشاها” في المنطقة لا ترتبط ببعضها البعض. فقد تبيّن أن “محور المقاومة” هو بؤر متفرقة لا تشتغل مع بعضها البعض، ولا تتبع “الهدف” الذي تعنيه دائما، وهو تحرير القدس وحماية الأقصى.

انتهكت إسرائيل حرمة المسجد الأقصى الذي تتسابق منصات إعلام “محور المقاومة” في رسم صور قادته يصلون في باحاته بعد تحريره. تردّدت أصوات أهالي الشيخ جراح في القدس المحتلة بكل مكان حول العالم، إلا على جبهات “مقاومة” إيران وأذرعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فصمت الآذان وأغمضت الأعين.

بالنسبة إلى حزب الله في لبنان، لا يهم إن كانت باحات الأقصى تستباح، أو يهجّر المقدسيون من منازلهم، أو يموت الفلسطينيون في غزة تحت القصف الإسرائيلي

لم تطلق حجارة من جبهات “المقاومة” نصرة للأقصى والشيخ جراح. ولم تشتعل الجبهات دعما لحماس والجهاد اللتين تعتبران جزءا من “المقاومة”. بدا الأمر وكأنه حدث في قارة أخرى، أو أن الخصم ليس تلك “الصهيونية العالمية” التي يهددها ويتوعّدها “المقاومون” في طهران ودمشق وبيروت وبغداد وصنعاء ليل نهار.

ثمة قرار في جميع بؤر إيران “المقاومة” بأن لا تتدخل في ما يجري بين إسرائيل وقطاع غزة. ربما خشية من أضرار لا يمكن تحملها في حال اتجهت الماكينة العسكرية الإسرائيلية نحو تلك البؤر، أو قد يكون الأمر كما وصفه إعلامي إسرائيلي معروف بأنه حماية لحدود دولته من قبل دول “محور المقاومة” بأوامر من إيران.

لا تحقق الحروب التي تشن ضد إسرائيل من جبهات “محور المقاومة” نتائج مثل تحرير فلسطين أو القدس. وهي أيضا لا تلحق بإسرائيل أضرارا تقارب حجم الدمار والموت الذي يطال المدن والبلدات والقرى التي يهيمن عليها “المقاومون” في “جبهات” سوريا ولبنان، عندما تردّ دولة “الاحتلال” على صواريخ “المقاومة”.

لا يمكن اعتبار كفة الحرب الغالبة لإسرائيل سببا لتخلي جبهات “المقاومة” عن بعضها البعض. ولكن يمكن القول إن لكل جبهة سياقا خاصا في التعامل مع الإسرائيليين وفقا لمصلحتها أو مصلحة الراعي الإيراني. وبالتالي هي لا تعمل ضمن غرفة عمليات مشتركة، ولا يوجد أي تنسيق بينها لتحقيق “أهداف عربية وإسلامية” تجمعها.

الأسد لا يريد إنهاء الاحتلال لأنه ينعم بالسلطة بسببه، ويحكم السوريين بالحديد والنار بحجة “المقاومة”

القصف الإسرائيلي الذي تعرضت له غزة وسط صمت نظام الأسد في دمشق، وحزب الله في لبنان، وقبلهما نظام الخميني في طهران، يبوح بحقيقة واحدة مفادها باختصار، أن “محور المقاومة” موحد بالخطب والبيانات الصحافية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أما في الواقع فهو عبارة عن ميليشيات انتهازية تدار من إيران.

بالنسبة إلى نظام دمشق فهو منشغل بانتخابات الرئاسة التي يبحث فيها “الرئيس” بشار الأسد عن ولاية رابعة على جثث أربعمئة ألف قتيل، وأنفاس ثلاثمئة ألف معتقل ومختفٍ، وتشريد الملايين من اللاجئين والنازحين، فهل يعقل أن يكترث هذا “المقاوم” بمن قتل في غزة أو هجّر من الشيخ جراح أو حرم من الصلاة في المسجد الأقصى؟

على مدار خمسة عقود متتالية لم يفعل النظام السوري ما يعكّر صفو حدود إسرائيل الشمالية الشرقية حتى في الجولان المحتل الذي يعرف العالم أنه جزء من الأرض السورية التي خسرتها في حرب 1967، وكان الأسد الأب حينها وزيرا للدفاع، ثم امتنع عن استرجاعها حتى عندما عرضتها عليه إسرائيل مقابل إبرام سلام معها.

لا يريد الأسد إنهاء الاحتلال لأنه ينعم بالسلطة بسببه، ويحكم السوريين بالحديد والنار بحجة “المقاومة”. وعندما لم تعد إسرائيل تكفي، جلب المحتلين الروس والإيرانيين والأتراك والأميركيين، واليوم يجبر الناس على “انتخابه” بينما ترفرف أعلام المحتلين الخمسة الذين جلبهم فوق أراضي “الدولة”.

بالنسبة إلى حزب الله في لبنان، لا يهم إن كانت باحات الأقصى تستباح، أو يهجّر المقدسيون من منازلهم، أو يموت الفلسطينيون في غزة تحت القصف الإسرائيلي. المهمّ فقط أن تنجح المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران، فيستأنف خامنئي إرسال الأموال إلى الحزب كي يقتل المزيد من السوريين ويذل المزيد من اللبنانيين.

ميليشيات إيران في العراق واليمن مثل حزب الله اللبناني، تتباكى ليل نهار على فلسطين والمقدسات، ولكن صواريخها لا تطلق إلا على السعودية أو على قوات التحالف الدولي ضد داعش، فالمهمّ بالنسبة إليها ترسيخ احتلال الحرس الثوري للدول العربية وليس تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.

قد يقول قائل إن نظام الأسد في سوريا أو حزب الله في لبنان، ما كانا ليتورطا في حرب شنتها حماس من أجل مصالحها السياسية. فقد كانت شعبيتها في الحضيض، وضاق الناس ذرعا بها في غزة، لذلك استغلت ما جرى في القدس، وركبت النقمة الشعبية على انتهاكات الاحتلال لتسترد مكانتها.

ولكن صمت حزب الله في لبنان والأسد في دمشق، لا يعني اعتراضا على انتهازية حماس وتضحيتها بأرواح الأبرياء من أجل مصالحها، وإنما هو إقرار بحقيقة أن جبهات “المقاومة” ما هي إلا بؤر مفككة لا يجمعها إلا الراعي الإيراني الذي توسع في المنطقة العربية بدعم وتشجيع من الأميركيين.

لم تطلق حجارة من جبهات “المقاومة” نصرة للأقصى والشيخ جراح. ولم تشتعل الجبهات دعما لحماس والجهاد اللتين تعتبران جزءا من “المقاومة”

كان الثمن باهظا بالنسبة إلى سكان غزة، وخسرت حماس الكثير من بنيتها التحتية ومسلحيها، ولكنها كحركة عادت إلى المشهد السياسي الفلسطيني. قد لا تهنأ طويلا بهذه العودة ويزول كل شيء عندما ينقشع غبار المعارك وتتضح شروط الهدنة مع إسرائيل، ولكن ما سيبقى حتما هو ذلك الشكر الكبير الذي وجهه رئيس المكتب السياسي لحماس إلى إيران على مدها “المقاومة” بالسلاح والمال.

هذه هي الأولوية بالنسبة إلى بؤر “المقاومة”، فكل الدمار والموت الذي تجلبه أو تقوم به في دولها، لا يهم ما دام الراعي الإيراني يحصد “الانتصارات”، وما دامت مصالح قادة هذه البؤر تتحقق عبر إيهام الأبرياء بأن ما يفعله خامنئي ونصرالله وهنية والأسد والحوثي هو “مقاومة” على طريق تحرير القدس والمسجد الأقصى.

9