انقلاب آخر في غرب أفريقيا على وقع خطوات روسية غامضة

شهدت بوركينا فاسو انقلابا ثانيا؛ كان هناك انقلاب ثالث في منطقة الساحل هذا العام. فبعد أشهر قليلة من إطاحة بول هنري داميبا بالرئيس المنتخب ديمقراطيا للبلاد، أطيح به خلال الشهر الماضي لنفس السبب. وتستمر جرائم الميليشيات الإسلامية الدموية في المناطق الخارجة عن السلطة في البلاد، وتسببت نزوح مليوني شخص داخل حدود البلاد. يمكننا القول إن دول الساحل تتفتت.
لكن ما لفت انتباه المراقبين هو التدخل الروسي الغامض. فعندما أطيح بداميبا في يناير كان يُعتقد أن الحكومة ستنهي تحالفها من فرنسا وتتجه إلى روسيا طلبا للمساعدة في حربها ضد المسلحين.
لم يحدث ذلك، وتناقلت التقارير أن النقيب إبراهيم تراوري الذي قاد الانقلاب الأخير سيفعل ذلك. ولوّح أنصار تراوري بالعلم الروسي بعد الانقلاب.
◘ تكمن الصعوبة في فهم ما يجري، في عدم وضوح ما تخطط له روسيا، باستثناء الرغبة العامة في إضعاف التحالفات الغربية مع الدول الأفريقية
لكن تصريح رئيس مجموعة فاغنر للمرتزقة يفغيني بريغوزين كان الأكثر دلالة، حيث أشاد بالانقلاب. وشوهد مقاتلوه في العديد من البلدان الأفريقية، بعد أن خرج من الظل في الآونة الأخيرة وأصبحت مجموعة فاغنر أكثر انخراطا في الحرب في أوكرانيا.
تؤكد مختلف الإشارات أن روسيا تخطط لشيء ما في غرب أفريقيا، ولكن المحللين الغربيين لا يعرفون بعد ما هو بالضبط. ويكتنف الغموض دوافع موسكو في المنطقة، مما يصعّب محاربة نفوذها.
أولا، يبقى الغرض من التضليل والدعاية الروسية المكثفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي غير واضح. ويزداد تطورها وانتشارها باللغتين الإنجليزية والفرنسية عبر البلدان الأفريقية من خلال منصات متعددة مثل فيسبوك وواتساب، مع اعتماد النكات والميمات وإبراز معرفة وثيقة بسياسات المنطقة.
محتوى هذه الدعاية ليس سياسيا بشكل واضح، أو هو لا يتعلق على الأقل بنتيجة سياسة معينة بشكل مباشر، لكنه يستغل الشعور المتنامي بالظلم ضد الدول الغربية، ويصوّر روسيا بصفتها دولة قوية تقف إلى جانب الشعب، ويعرض الحنين إلى دعم الاتحاد السوفييتي التاريخي للحركات المناهضة للاستعمار ويؤكد على قدرة البلدان الأفريقية على تحديد مصيرها بنفسها.
تكمن الصعوبة في فهم النوايا الروسية في أن العديد من هذه المشاعر يمكن أن تصدر أيضا عن أشخاص يعيشون هناك. وهذا الغموض يجعل من المحتوى تهديدا. وقد يصعب معه التمييز بين المدى الذي تنتهي عنده المشاعر الحقيقية المعادية للفرنسيين والغرب لتبدأ الدعاية المؤيدة لروسيا.
لا يمكن لأحد أن يخبرنا تماما عن الهدف الروسي النهائي في غرب أفريقيا. وإن كان الهدف خلق جو معاد للغرب؟ وتبذل القوات الفرنسية جهدها للتحقق فيما إذا كان الترويج لموقف مؤيد لروسيا مرجح للتغلغل بين القادة الذين قد يقدمون لروسيا الدعم في حربها ضد أوكرانيا؟
ربما. ولكن، هل سيمهد هذا الطريق لمشاركة روسية محتملة في المستقبل؟ ربما أيضا. فعلى الرغم من انتشار المحتوى على نطاق واسع، إلا أنه يظهر في بلدان لا تشارك فيها روسيا علنا. ربما تلعب روسيا هنا على المدى الطويل.
في ظل هذا السياق الدعائي (قرع الطبول المستمر ذي المحتوى المؤيد لروسيا) لا شك في وجود تدخل فعلي في الشؤون السياسية. ولكن، حتى على هذا المستوى يظل الأمر غامضا.
تتمركز مجموعة فاغنر في قلب هذا الغموض. لقد قدمت الحماية لرئيس جمهورية أفريقيا الوسطى قبل أن تتوسع إلى مالي، وهي دولة محورية في حرب الساحل ضد المسلحين، ومنطقة تخسر فيها القوى الغربية. وقدمت قوات المجموعة هناك في البداية التدريب والأمن. ووصل المزيد من أفراد فاغنر مع رحيل الفرنسيين خلال الصيف، وكلهم يعملون، إذا كان من الممكن تصديق نفي الكرملين، “دون عِلم روسيا”.
ومع ظهور فاغنر الآن في بوركينا فاسو المتاخمة لمالي، لا عجب إن بدا للجميع أن هناك خطة ما تنفذ.
◘ تستمر جرائم الميليشيات الإسلامية الدموية في المناطق الخارجة عن السلطة في البلاد، وتسببت نزوح مليوني شخص داخل حدود البلاد
وتكمن الصعوبة في فهم ما يجري، في عدم وضوح ما تخطط له روسيا، باستثناء الرغبة العامة في إضعاف التحالفات الغربية مع الدول الأفريقية وتوسيع علاقاتها الخاصة وربما الوصول إلى الموارد الطبيعية.
وتكمن هنا أصعب جوانب معركة الساحل؛ حيث تبدو روسيا أحيانا العقل المدبر والمستفيدة.
وتتجسد موجة العنف في منطقة الساحل في اضطرابات هائلة، من أعراضها التحركات الغاضبة ضد الحكومات في العديد من البلدان، حيث لم ينس الناس هناك تاريخ فرنسا الوحشي.
في ظل هذه الخلفية، جاءت روسيا لتقدم خدمات مرتزقة لا أخلاقية دون محاضرات عن الديمقراطية. مستفيدة من تاريخها وقدراتها في حرب المعلومات لخلق دعم شعبي لمشاركتها.
لن تكون بوركينا فاسو آخر انقلاب يحمل بصمات روسيا. ولن تندثر المشاعر المعادية للفرنسيين بين جماهير غرب أفريقيا. وستحجم دول الساحل عن قبول أيّ تدفق جديد للقوات الغربية، وسيتردد الفرنسيون طويلا قبل إرسال أبنائهم لخوض حرب في بلد لا يريد الشعب فيه قدومهم. ولا تحتاج روسيا إلى بذل جهود لكسب القلوب والعقول والاستفادة من الحرب التي خسرها الغرب.