انفتاح السوق الحرة فرصة لمعالجة تشوهات الاقتصاد السوري

إدلب تتحول إلى نواة تجارية لكنها تهدد أعمال الشركات ببقية المحافظات.
الأربعاء 2025/04/30
التوازن مهمة ليست سهلة لتحقيق الأهداف

يشكّل انفتاح السوق الحرة في سوريا، إذا ما تمّ ضمن بيئة تنظيمية سليمة، فرصة حقيقية لمعالجة التشوهات الهيكلية التي أثقلت كاهل الاقتصاد بسبب الحرب، لكن المخاوف تتسلل إلى الشركات من أن تفقد أعمالها مع تركيز السلطات الجديدة على إدلب كنقطة مركزية للتجارة.

إدلب (سوريا) – ينظر حكام سوريا الجدد بفخر إلى محافظة إدلب شمال غرب البلاد كنموذج للسوق الحرة أقاموه في ظروف مستحيلة بعد انتزاعها من نظام بشار الأسد قبل أكثر من عقد من الزمن.

وشكل سقوط الأسد إنجازا عظيما للتاجر محمد البدوي فقد تضاعفت مبيعاته، إذ يُمكن الآن بيع المشروبات التي يستوردها بأسعار زهيدة من تركيا إلى معقل المعارضة السابق في إدلب وفي باقي أنحاء البلاد.

ولكن الأمر مختلف بالنسبة إلى هيثم جود، فقد انهارت أعماله بعدما بنى إمبراطورية الأغذية والمشروبات والسلع الاستهلاكية في العاصمة دمشق في ظل الرقابة المشددة لنظام الأسد الحمائي.

ويثير قلقه تجربة الحكومة الجديدة في اقتصاد السوق الحر. وقال جود، في فندق بوتيك يملكه، يقع داخل أسوار مدينة دمشق القديمة لرويترز “مع كل هذه الواردات، علينا أن نرى ما سيحدث للصناعات المحلية”. وأضاف “إنه تحد كبير.”

محمد البدوي: ستكون لتجار إدلب بصمة لأنهم قادرون على المنافسة
محمد البدوي: ستكون لتجار إدلب بصمة لأنهم قادرون على المنافسة

ويكشف تباين أحوالهم عن تحول البلد منذ وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في ديسمبر الماضي. وقد وعدت حكومتهم بإنهاء عقود من حكم المحسوبية في عهد نظام الأسد، عندما كان الاقتصاد تحت سيطرة حفنة من كبار رجال الأعمال.

وساهم سوء إدارة الأسد في دفع البلاد، التي يبلغ عدد سكانها 24 مليون نسمة، إلى حالة من الانهيار الاقتصادي، وسط عقوبات غربية وحرب أهلية ضارية.

ويعيش معظم سكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام تحت خط الفقر، وفقا للبنك الدولي، وكانت الصادرات تهيمن عليها المبيعات غير المشروعة للكبتاغون، وهو مخدر شبيه بالأمفيتامين.

ويشعر الكثير من السوريين بأمل أكبر من أي وقت مضى في أن تبدأ بلادهم إعادة الإعمار بعد 14 عاما من الصراع.

لكن الانفتاح السريع لسوريا حوّل القوة الاقتصادية نحو الشركات في إدلب، وكيانات مرتبطة بهيئة تحرير الشام، حسبما قال أكثر من اثني عشر رجل أعمال بارزا، وفقا لمسؤولين ومحللين لرويترز.

وهذا يغذي الاستياء لدى بعض أفراد مجتمع الأعمال والمواطنين، ومعظمهم في المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام سابقا، والذين يخشون من استبدال شكل من أشكال المحسوبية بآخر، مما يؤجج التوترات في البلد المنقسم عرقيا ودينيا.

وقال جهاد يازجي، محرر النشرة الإخبارية الرائدة باللغة الإنجليزية “سيريا ريبورت”، إن “هناك استياء كبيرا. الأمور جيدة لسكان إدلب، وهم قليلون جدا، والأمور سيئة للغاية بالنسبة لبقية السوريين، وهم كثيرون.”

ورغم رد الفعل العنيف يعتقد يازجي أن الزخم الذي اكتسبته الإدارة الجديدة يواصل مسيرته حتى الآن. وقال “من الصعب معارضته”.

جهاد يازجي: ثمة استياء كبير فالأمور جيدة لسكان إدلب وسيئة للبقية
جهاد يازجي: ثمة استياء كبير فالأمور جيدة لسكان إدلب وسيئة للبقية

وفي حين يكافح رجال الأعمال في مناطق سيطرة النظام سابقا للتكيف، يحقق تجار إدلب، وفقا للمحللين، أرباحا طائلة من سوقهم الداخلية المتوسّعة.

ويستفيد هؤلاء من علاقاتهم القوية مع تركيا المجاورة، الداعمة للمعارضة السورية منذ فترة طويلة، والتي يُتوقع أن تلعب دورا رئيسيا اقتصاديا وسياسيا.

وفي مستودعاته بمدينة سرمدا المزدهرة، بالقرب من الحدود التركية، يراقب البدوي عامل رافعة شوكية ينقل عبوات بيبسي وصلت حديثا من الجانب الآخر من الحدود. وقال “إنهم متعطشون لكل شيء داخل سوريا.”

ويتماشى التحول في الاقتصاد مع هيكل السلطة المركزية لهيئة تحرير الشام في سوريا المعاد تشكيلها. فقد نصّبت حلفاءها على رأس وزارات رئيسية، وزعيمها أحمد الشرع رئيسا للبلاد لفترة انتقالية مدتها خمس سنوات، وجعلت شركات إدلب مقدّمة خدمات رئيسية.

وتجري السلطات الجديدة تحقيقات في العشرات من الشركات، بحثا عن صلات بالنظام السابق، وتسعى للحصول على تعويضات من خلال مفاوضات مع كيانات يعتقد أنها استفادت من حكم الأسد.

وتدفع رواتب القطاع العام عبر تطبيق شام كاش المرتبط بهيئة تحرير الشام، لكن لا تزال هناك اختلافات واضحة بين موظفي الدولة، تبعا للمناطق الجغرافية.

وفي دمشق، يصطف الناس في طوابير طويلة أمام أجهزة الصراف الآلي كل صباح لسحب أقصى مبلغ نقدي. ولا تشاهد مثل هذه الطوابير في إدلب.

ولا يزال سكان مناطق سيطرة النظام سابقا يتقاضون رواتب أقل بكثير من موظفي إدلب، حيث لم تتحقق الزيادة الموعودة في رواتب القطاع العام بنسبة 400 في المئة.

ويعجز الكثير من الناس عن شراء قهوة نسكافيه سريعة التحضير المستوردة وألواح شوكولاتة باونتي التي حلت محل المنتجات المحلية المقلدة التي كانت معروضة سابقا على رفوف المتاجر.

عبدالله الدردري: يتعين على الدولة تطوير سياسات تحمي قطاع الصناعة
عبدالله الدردري: يتعين على الدولة تطوير سياسات تحمي قطاع الصناعة

وكان الاقتصاد تاريخيا مزيجا من الصناعة والزراعة وقطاع تجاري قوي. وقد انكمش الناتج السنوي بنسبة تصل إلى 90 في المئة من حوالي 60 مليار دولار عشية احتجاجات عام 2011 المناهضة للأسد التي أشعلت الحرب الأهلية، وفقا لتقديرات البنك الدولي.

ولا تزال العقوبات الأميركية، التي خنقت النشاط الاقتصادي، سارية رغم تعليقها المحدود، مما يحول دون استئناف التجارة الخارجية على نطاق واسع.

وتريد واشنطن من الحكومة الجديدة إحراز تقدم في 8 شروط لتخفيف الحظر بشكل أكبر. وتقول دمشق إنها أحرزت تقدما في معظمها.

وفي دمشق، تجوب السيارات القديمة شوارع المدينة المظلمة بسبب انقطاع شبكة الكهرباء. ويؤدي بطء الإنترنت الشديد إلى الحد من العمل عبر الإنترنت، في حين أن مؤسسات الدولة لديها الكثير من الموظفين ولكن إنتاجيتها ضعيفة.

أما في إدلب، فتمتلئ الطرق بأساطيل من السيارات المستوردة حديثا، القادمة عبر تركيا من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك رينج روفر وميني كوبر، وهي تباع بثلث ما كانت عليه في عهد الأسد في ظل الرسوم الجمركية، وفقا لأسعار ثلاثة تجار.

ورغم أن السيارات تصل أيضا عبر الموانئ ومعبر جنوبي مع الأردن، إلا أن المشترين يتدفقون إلى إدلب لانخفاض أسعارها، وفقا لتجار القطاع.

وقال متحدث باسم هيئة الحدود لرويترز، لم تذكر هويته، إن “التجارة في معبر باب الهوى الحدودي في إدلب مع تركيا ارتفعت بنسبة 42 في المئة خلال الربع الأول من عام 2025 بمقارنة سنوية.”

وقال البدوي “ستكون لتجار إدلب بصمة في جميع أنحاء سوريا لأنهم قادرون على المنافسة ويمكنهم الحصول على المنتجات من أي مكان في العالم، بينما يعاني تجار الداخل السوري من نقاط ضعف.. أنا متفائل جدا.”

لكن جود لا يشاركه هذا الرأي المتفائل. وقال إن “القول بأن الاقتصاد سيكون حرا أمر رائع، لكن علينا أن ننظر إلى التفاصيل.”

ومن بين أهم مشاريعه الحقوق الحصرية لإنتاج منتجات بيبسي محليا رغم أن المبيعات انخفضت بنحو 70 في المئة منذ سقوط الأسد، بسبب منافسة مستوردين مثل البدوي، وانهيار القوة الشرائية المرتبط بنقص العملة.

وقال عبدالله الدردري، الأمين العام المساعد لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذراع التنموية للأمم المتحدة، والمولود في سوريا، إن “الدولة يتعين عليها تطوير سياسات تجارية، بما في ذلك التعريفات الجمركية، إذا أرادت حماية الصناعات السورية.”

الكثير من الناس يعجزون عن شراء قهوة نسكافيه المستوردة وألواح شوكولاتة باونتي التي حلت محل المنتجات المحلية المقلدة

وتساءل خلال حديثه مع رويترز “هل نعتمد على قوى السوق لتحديد ذلك دون تدخلات في التخصيص؟ حاليا، لن يكون ذلك ناجحا.”

وكان استيراد حتى الضروريات كالأدوية والقمح في عهد الأسد أمرا صعبا، حيث كان التجار يحتاجون إلى أشهر للحصول على العملة الصعبة عبر منصة حكومية، بينما كانت التعاملات المباشرة بالدولار غير قانونية.

وصرح مسؤولون لرويترز بأن نحو 600 مليون دولار أُودعت في المنصة قبل سقوط الأسد لم تُكتشف بعد، مما ترك الشركات في مناطق سيطرة النظام تعاني من نقص في السيولة. ولم يُبلّغ سابقا عن الأموال المفقودة من المنصة.

وفي إدلب، تُقبل الليرة التركية والدولار الأميركي، بينما لا تُقبل الليرة السورية. وتعمل الكهرباء التي توفرها تركيا على مدار الساعة في الغالب، وتوفر شبكة اتصالات مقرها إدلب إنترنت سريعة.

وذكر رجال أعمال في إدلب أنهم شعروا بالتمكين لبناء الاقتصاد كشكل من أشكال مقاومة الأسد. أما أولئك الموجودون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فيقولون إنهم عانوا من التضييق والمحسوبية.

وقال مصطفى الطاء، رئيس النسخة الثورية من غرف التجارة السورية، والتي تأسست في إدلب عام 2014 لرويترز “عندما تحررت البلاد، أدركنا أنه رغم تعرضنا للقصف، فإنهم هم من يُدمرون.”

وفي مكتبه الأنيق في سرمدا بدمشق، المجهز بشبكة واي فاي، تُستخدم رموز قابلة للمسح الضوئي لتسجيل الشركات بسرعة.

وفي فبراير، عيّنت الحكومة الجديدة علاء العلي رئيسا لاتحاد غرف التجارة السورية القوي، في خطوة تُعتبر دليلا على تنامي دور إدلب. وهذه الغرف غير حكومية، لكنها تتمتع بصلاحيات واسعة لتشكيل العلاقات التجارية في سوريا.

حح

وقال العلي لرويترز “إدلب هي نواة.” لكنه أشار إلى أنه لن يحصل أحد على معاملة تفضيلية بناء على صلاته بالسلطات الجديدة، ووصف مهمته بأنها القضاء على الممارسات الفاسدة وإشراك جميع رواد الأعمال في الاقتصاد. وأضاف “لم يتوقع الناس هنا أن يكون الوضع هكذا. كانت لديهم صورة سيئة بأننا جئنا لقتلهم ونهبهم وسلب أموالهم. لكنهم بدلا من ذلك، وجدوا الاحترام.”

وأكد ثمانية تجار دمشقيين على التحول الإيجابي في لهجتهم ونهجهم؛ فالحكومة أصبحت تستمع إليهم، وشعروا بحرية أكبر في التعبير عن آرائهم.

وقالت نادين شاوي، سيدة أعمال من عائلة مسيحية عُيّنت مؤخرا بغرفة تجارة دمشق، “إنهم مسؤولون، ويتحملون المسؤولية، وصانعو قرار.” وأضافت “الفرق الرئيسي هو الفساد. سابقا كنت تشعر أنك لا تستطيع إنجاز أي شيء دون دفع المال. هذا الشعور زال.”

لكن أعمالها في استيراد الأدوية تضررت من تغير اللوائح، والتهريب، والمنافسة الجديدة، وانخفاض القدرة الشرائية. وقالت “نحن لا نبيع حقا.”

في هذه الأثناء، يعمل الموظفون في ريفا فارما، وهي شركة لإنتاج الأدوية أسسها سوريون فروا من حكومة الأسد في إدلب 2014، بنظام الفترتين لتلبية الطلب على الأدوية الجنيسة. كما وظفت أكثر من 100 وكيل لتسويق منتجاتها في حلب وحماة ودمشق.

وقال مدير المبيعات مصطفى دغيم، متحدثا عن تغيير النظام، “كانت نقلة نوعية في مسيرة تطورنا.” وأضاف “السوق المحلية ضخمة الآن.”

10