انسداد أفق النظام العالمي يفتح عهدا عدائيا جديدا

برلين- ما زال العالم يتخبط في أزمة سياسية ألقت بظلاها على مختلف الدول ما أفرز على أرض الواقع العديد من التوترات والأزمات والمخاطر التي تهدّد أمن العالم، وذلك بالتزامن مع احتدام التنافس العدائي بين أعتى الدول وأقواها وتحديدا بين الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي على جميع الأصعدة السياسية والتجارية والعسكرية.
وعلى الرغم من أن التسابق المحموم بين هذه القوى التي تسطّر لوحدها مستقبل النظام العالمي وملامحه بقي منحصرا في تبادل الاتهامات والتصريحات العدائية وفي إجراءات تجارية خانقة للاقتصادات على غرار ما يفعله الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتوخيه سياسة “أميركا أولا” القائمة على إغراق البلدان القوية والمنافسة للولايات المتحدة كالصين أو الاتحاد الأوروبي بفرض رسومات تجارية، فإن الكثير من المتابعين يذهبون إلى أبعد من هذه الخطوات بتحذيراتهم المتواترة من أن البيئة العدائية التي تجتاح العالم وتحديدا بين الدول القوية قد تؤدي في نهاية المطاف إلى حلول عسكرية شعارها حفظ البقاء وتزعم العالم.
ولئن اجتاز العالم تلك المخاطر التي عاش على وقعها طيلة سنوات من قبيل إمكانية اندلاع حرب عسكرية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية عقب القمة التاريخية التي جمعت دونالد ترامب بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون أو القمة الأخرى التي ستجمع الطرفين، فإن كل البوادر تشير إلى أن الصراع بين روسيا والولايات المتحدة والصين بشأن العديد من الملفات التجارية أو العسكرية والسياسية ينذر بأن أمن العالم بات مهددا في أكثر من أي وقت منذ نهاية الحرب الباردة.
ومع تصاعد التسابق نحو التسلّح والخلافات بين موسكو وواشنطن حول المعاهدة النووية المتوسطة والتي تهدد الولايات المتحدة بالانسحاب منها متهمة روسيا بخرق بنودها، أصدر القائمون على مؤتمر ميونخ للأمن الاثنين تقريرا يقول إن عصرا جديدا من المنافسة بين القوى العالمية الكبرى كالصين والولايات المتحدة وروسيا يجعل العالم في مواجهة مستقبل أكثر عدائية ويصعب التكهن به.
ويهدف التقرير الذي صدر تحت عنوان “الأحجية الكبرى: من سيفك الطلاسم؟” إلى وضع جدول أعمال الزعماء المشاركين في المؤتمر الأمني السنوي الذي يبدأ الخميس.
وقال التقرير “في ضوء التطلعات الاستراتيجية السائدة في واشنطن وبكين وموسكو، يتحول التكهن بعهد جديد من المنافسة بين القوى الكبرى إلى نبوءة تتحقق على ما يبدو”.
وحث فولفجانج إيشنجر رئيس مؤتمر ميونخ للأمن، وهو سفير ألماني سابق لدى واشنطن، صناع السياسة في القوى المتوسطة كالاتحاد الأوروبي على فعل المزيد للحفاظ على نظام عالمي ليبرالي. وأشار إيشنجر في مقابلة صحافية إلى أن الترسانة النووية الفرنسية ينبغي أن تهدف إلى حماية الاتحاد الأوروبي كله وليس فرنسا وحدها. وأضاف لمجموعة فونكه الصحافية الألمانية أن هذا يعني أنه يتعين على دول الاتحاد الأوروبي تقاسم تكلفة صيانة الأسلحة النووية الفرنسية.
كل هذه التصورات الأوروبية المنزعجة من اقتراب نهاية الديمقراطية الليبرالية ووصولها إلى طريق مسدود أكدها إيمانويل ماكرون على هامش احتفالية القرن لانتهاء الحرب العالمية الأولى بدعوته إلى إنشاء جيش أوروبي موحد، كرد على استفزاز الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي دعا الأوروبيين إلى دفع ما عليهم لحلف الناتو قبل التفكير في خطوات أمنية دفاعية مستقلة.
وبصرف النظر عن خلفيات الموقف الفرنسي وإلى حد كبير أيضا الألماني في سياق مقاربة الموضوع الأمني الأوروبي، تبقى هناك العديد من التحديات التي تواجه المجتمع الأوروبي بشكل عام والدول الرائدة فيه بشكل خاص، للوصول إلى أوربة الأمن بمعزل عن التحالفات الأخرى كالناتو مثلا. وهي تحديات متصلة بالأساس ببيئات من الصعب على القادة الأوروبيين التقرير فيها منفردين أو بمعزل عن ضغوط أو مؤثرات خارجية وازنة. وبالتالي ثمة العديد من التحديات الذاتية والموضوعية الأوروبية التي تسهم في إعاقة التوصل إلى مثل تلك المشاريع.
ولهذه المواقف الأوروبية المتوجسة تاريخ طويل، فالولايات المتحدة التي احتضنت أوروبا بداية عبر مشروع مارشال وحلف الأطلسي، لا تزال تعتبر أن الأمن الأوروبي معضلة أميركية لا أوروبية، ولا مناص من الانفكاك أو الانفصال، لاسيما وأن الربط يأتي في سياقات استراتيجية متصلة بالعلاقات مع روسيا وريثة عقود من العداء والحروب الساخنة والباردة إبان الحقبة السوفياتية وما تلاها.
وبالتالي وفق المراقبين فإن واشنطن التي تعتبر الجغرافيا السياسية الأوروبية مجالا حيويا لها، تعتبر أيضا أن المظلة الأمنية للناتو هي أداة فعّالة للضغط على موسكو في اتجاهات متعددة، بدءا في شرق أوروبا وصولا إلى وسط آسيا مرورا بالشرق الأوسط.
لكن التقرير الأمني الصادر في ميونخ قال إن برلين وباريس بحاجة إلى العمل معا على نحو أكثر فعالية لتعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي “غير المستعد جيدا” على التعامل مع المنافسة المحتدمة بين القوى الكبرى.