انسحاب سياسيين من المشهد الجزائري: زهد سياسي أم استسلام لخيارات السلطة

الغلق السياسي يدفع ناشطين حزبيين وإعلاميين إلى الابتعاد عن المشهد.
الجمعة 2024/01/12
مناخ سياسي منفّر للنشاط الحزبي

من غير المستبعد أن يكون الغلق السياسي الذي تعتمده السلطة الجزائرية بقيادة الرئيس عبدالمجيد تبون في السنوات الأخيرة، وتعمدها تغييب الأنشطة الحزبية والنقابية، وراء إعلان نخب سياسية انسحابها من المشهد، بعد أن قررت وجوه سياسية وإعلامية الابتعاد عن الساحة.

الجزائر - أعلن زعيم جبهة المستقبل في الجزائر عبدالعزيز بلعيد عن عدم ترشحه لقيادة الحزب خلال الولاية القادمة، لينضاف بذلك إلى قادة حزبيين آخرين اختاروا الانسحاب من المشهد، على غرار أبوالفضل بعجي من جبهة التحرير الوطني، وقبلهما زعيم التجمع الوطني الديمقراطي ومرشح الانتخابات الرئاسية الأخيرة عزالدين ميهوبي، لتطرح بذلك حالة غير مسبوقة يمتزج فيها خيار الزهد السياسي مع افتقاد الساحة السياسية للجاذبية والمحفزات في ظل الغلق المنتهج من طرف السلطة.

وستعقد جبهة المستقبل في مطلع الأسبوع القادم مؤتمرها الثالث، وسط تنافس مفتوح بين كوادرها على منصب الأمين العام، وذلك بعد إعلان مؤسسها وأمينها العام المنتهية ولايته عبدالعزيز بلعيد عن عدم الترشح، على عكس القيادات الحزبية الأخرى التي ظلت متشبثة بمناصبها منذ نشأة أحزابها في مطلع تسعينات القرن الماضي إلى غاية الآن.

وعبدالعزيز بلعيد هو أحد الوجوه السياسية التي تدرجت في مختلف الفعاليات النضالية، بداية من الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين، ثم جبهة التحرير الوطني، قبل أن ينصرف عام 2012 إلى تأسيس جبهة المستقبل، التي خاض باسمها سباق الانتخابات الرئاسية الأخيرة وغمار الانتخابات التشريعية، حيث صار حزبه القوة السياسية الثالثة في البرلمان الحالي.وجاء القرار في سياق توجه يقلص سطوة الطموح السياسي داخل الطبقة الحزبية في البلاد، حيث سبق أن أعلن الأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني أبوالفضل بعجي عن انسحابه في آخر المطاف من سباق منصب الأمين العام، ونفس الشيء بالنسبة إلى الأمين العام السابق للتجمع الوطني الديمقراطي ومرشح الانتخابات الرئاسية الأخيرة عزالدين ميهوبي، الذي أعلن الانسحاب من المشهد الحزبي والتفرغ للشأن الأدبي والتأليف.

بعد هيمنة الحركات التصحيحية على عدد من القوى السياسية بات الانسحاب الطوعي للقادة يشكّل "موضة" سياسية

 وبعدما هيمن ما عرف بـ”الحركات التصحيحية” على عدد من القوى السياسية خلال السنوات الماضية، بإيعاز من مراكز قوة تتموقع خارج الأحزاب نفسها، حيث دخل الكثير منها في حالة من عدم الاستقرار والانشقاقات، بات الانسحاب الطوعي للقادة يشكل “موضة” سياسية تحمل في طياتها دلالات مختلفة.

وباستثناء حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية المعارض، الذي عقد مؤتمره الأخير وسط منافسة صريحة أفرزت عثمان معزوز أمينا عاما خلفا لمحسن بلعباس، فإن مؤتمرات الأحزاب الأخرى فصلت وفق إرادة البقاء في المنصب، قبل أن تتدخل إرادة خفية لتغيير اتجاه البوصلة في آخر المطاف.

وكان إعلان أبوالفضل بعجي، الذي فصّل تحضيرات المؤتمر الحادي عشر لجبهة التحرير الوطني بما يضمن له الاستمرار في منصبه، عدم الترشح للمنصب مفاجئا في آخر لحظة، بدعوى “التداول على مناصب المسؤولية وتجديد دماء الحزب”.

غير أن مصادر مطلعة أفادت بأن عدم رضى جهات فوقية في السلطة عن الرجل ضغط في اتجاه عدم التجديد له، نظرا لما ظهر من شكوك وعدم ثقة بينهما، وهو ما يوحي بأن السلطة التي عمدت طيلة السنوات الماضية على آلية الحركات التصحيحية والانقلابات البيضاء، باتت تقطع الطريق مباشرة عبر الإيعاز بعدم التقدم مجددا لمنصب المسؤولية.

العديد من السياسيين والناشطين والإعلاميين قرروا الابتعاد عن الساحة في ظل غياب المناخ الطبيعي للتعبير والنشاط

ولا يستبعد متابعون للشأن الحزبي في الجزائر أن يكون الغلق السياسي المنتهج من طرف السلطة في السنوات الأخيرة، وتعمدها تغييب الرأي الآخر في كل من المشهد الحزبي والإعلامي والنقابي، قد دفعَا نخبًا سياسية إلى إعلان الانسحاب، حيث قرر العديد من السياسيين والناشطين والإعلاميين الابتعاد عن الساحة في ظل غياب المناخ الطبيعي للتعبير والنشاط.

واشتكى القيادي السابق في حركة “حمس” الإخوانية عبدالرزاق مقري وزعيمة حزب العمال اليساري لويزة حنون من غياب فرص التعبير وهيمنة آليات تكميم الأفواه على النخب السياسية والإعلامية، الأمر الذي كرس حسبهما حالة من الأحادية غير المسبوقة في تاريخ البلاد.

ودعا حزب العمال في أحد بياناته إلى “ضرورة جعل العام 2024 عاما للانفتاح السياسي، والسماح للمجتمع في مختلف المواقع والمستويات بالتعبير عن نفسه، من أجل إفراز انتخابات رئاسية حقيقية وشرعية شعبية عالية لمن سينزل في قصر المرادية في ديسمبر المقبل”.

ونشر مقري على صفحته الرسمية في فيسبوك صورة لصدور عدد من الصحف الجزائرية في اليوم التالي لما عرف بـ”خطاب الأمة” لرئيس الجمهورية، وعلق باستغراب “كأنها صحيفة واحدة وكأنه رئيس تحرير واحد”، في تلميح إلى التضييق السياسي والإعلامي الذي تمارسه السلطة.

وكان أمين عام التجمع الوطني الديمقراطي السابق والوزير في عدة حكومات ومرشح الانتخابات الرئاسية الأخيرة، عزالدين ميهوبي، قد أعلن منذ أكثر من عام عن انسحابه من المسؤوليات الحزبية ومن الممارسة السياسية، وتفرغه للنشاط الأدبي والتأليف، الأمر الذي خلّف علامات استفهام حول أسباب وخلفيات الانسحابات المتتالية من المشهد السياسي في البلاد.

ويجمع مراقبون على أن الجزائر لم تبلغ هذه الحالة المرضية كما يحدث في الآونة الأخيرة، حيث اضطر ناشطون سياسيون وإعلاميون إلى الابتعاد طواعية عن المشهد تفاديا للصدام مع السلطة، ورفضا للانخراط في لعبة لا تتوافق مع قناعاتهم الشخصية، لكن ذلك سيغيب أدوات تعبير للمجتمع لا تظهر نتائجها إلا في المستقبل تحت أي شكل من الأشكال.  

4