انتقادات برلمانية للإعلام المصري تمهّد لتغيير في المشهد العام

أعاد انتقاد بعض أعضاء مجلس النواب المصري لوسائل الإعلام بنبرة حادة مؤخرا التّسليم بأن هناك تغييرا في المشهد العام، وأن الانتقادات ما هي إلا تمهيد لهذه الخطوة المرتقبة من قبل الجماعة الصحافية المشغولة بمعالجة الأمراض التي أصابت مهنتهم.
القاهرة - أبدت دوائر حكومية مصرية غضبها من تراجع تأثير العديد من المنابر الإعلامية وفقدان نسبة كبيرة من جماهيريتها في السنوات الماضية، وباتت هناك حلقة مفقودة بين السلطة والشارع لتوصيل صوت الطرفين بمصداقية.
وانتبه العديد من العاملين في الإعلام بمصر إلى مغزى تكرار الانتقادات من أعضاء في البرلمان لأداء وسائل الإعلام على فترات متقاربة، خاصة أنها صدرت من نواب مقربين من الحكومة أو ينتمون إلى تكتل محسوب على جهات رسمية، مثل تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين المعروف عن نوابها أن انتقاداتهم مقدمة لقرارات حاسمة.
وقال أعضاء في التنسيقية إن الكثير من وسائل الإعلام فاقدة للقدرة على مجاراة احتياجات الجمهور وتكتفي بنشر البيانات الرسمية الصادرة عن جهات حكومية دون أن يكون لها دور فاعل في تقريب المسافات بين الدولة والشارع، واكتفى الإعلام بتغطية أخبار الوزارات والهيئات بصورة نمطية.
وجاءت الهجمة البرلمانية في وجود أعضاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ورئيسه كرم جبر، وبدا الأمر أقرب إلى محاسبة بلسان الشارع على تراجع أداء الصحف والقنوات وانكفائها على نفسها وغياب تأثيرها وإخفاقها في مخاطبة الناس وتبني وجهة نظر الحكومة ليس أكثر، ما يعني أن الأمر لم يعد يلقى رواجا عند دوائر رسمية.
الحكومة تبحث عن إبراز إنجازاتها التنموية، لكنها ترفض أن يكون التمجيد القاعدة الحاكمة للمنابر الإعلامية
وأصبحت أزمات الإعلام المصري أكبر من مجرد غياب للمهنية وتكرار التجاوزات والفوضى التي تضرب المنظومة، وبات مرتبطا بتدني شعور المواطن العادي بأن الدولة لديها منابر إعلامية مؤثرة، سواء أكانت صحافية أو إلكترونية أو تلفزيونية، وبدا الشارع في اتجاه والإعلام في اتجاه آخر، بعد أن اعتاد الأول مخاطبة نفسه غير مكترث بتطلعات واحتياجات الجمهور.
وعلمت “العرب” أن المشهد الإعلامي في مصر يترقب تغييرات واسعة على مستوى السياسة التحريرية والشخصيات المسؤولة عن إدارة بعض المؤسسات والبرامج التلفزيونية، وأن دوائر حكومية تقوم بتقييم المنظومة من كل جوانبها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن وصلت علاقة الشارع بالإعلام إلى حد القطيعة بشكل ربما يصعب ترميمه مستقبلا، خاصة أن منابر معارضة استغلت هذه الفجوة وبدأت تبث برامج على يوتيوب تجذب المواطنين إليها وتتناول قضايا مثيرة للاهتمام في مصر.
ويبدو دخول أصوات برلمانية على خط الأزمة جزءا من التمهيد للتغيير، بحكم أن العديد من النواب تدور بينهم نقاشات في الغرف المغلقة حول تباعد المسافات الذي أصبح موجودا بين الحكومة والشارع، وأن ثمة شعور أبعد إحساس الناس بما تحقق من نجاحات حكومية، لأن الوسيط الذي يخاطبهم وهو الإعلام قليل المصداقية.
ويعتقد متابعون أن ارتداء بعض نواب البرلمان المحسوبين على دوائر حكومية ثوب المعارضة عند الحديث عن حال الإعلام محاولة لإقناع الشارع بأن السلطة نفسها غير راضية عن الوضع الراهن، وتستهدف الوصول إلى إعلام دوره خدمة الجمهور وإمداده بالمعلومات وترسيخ مفاهيم الديمقراطية وتعدد الأصوات.
ويؤكد هؤلاء أن وجود قناعة لدى نواب مقربين من الحكومة تشي بأن دور الإعلام ليس في الترويج لرؤى رسمية ضيقة هو بداية إيجابية يمكن البناء عليها لإحداث تغيير إيجابي في المنظومة، لكن ذلك يتطلب توفير مساحة من حرية الرأي والتعبير وفق ضوابط تحقق المهنية، وهذا يتطلب من الحكومة أن تبادر بفتح ملف الإعلام كليا وبشفافية لتعرف بالضبط أين تكمن حقيقة الأزمة، ومن أين يأتي الخلل، ومن المسؤول عنه؟

وقالت مصادر قريبة من جهات إعلامية مسؤولة لـ “العرب” إن الحكومة غاضبة من الطريقة التي أصبح عليها الإعلام، وتبحث عن إبراز إنجازاتها التنموية وحنكتها في مواجهة الأزمات المتلاحقة، لكنها ترفض أن يكون التمجيد فيها القاعدة الحاكمة للمنابر، وتحتاج إلى توازن وعقلانية بين رؤيتها وسياستها وتطلعات الجمهور نفسه.
وكثيرا ما تبرأت الحكومة من التدخل في توجيه الإعلام لإجباره على الانحياز المطلق لها، وهو ما أكده عبدالصادق الشوربجي رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، وهي الجهة المسؤولة عن إدارة المؤسسات الصحافية الحكومية في تصريحات قبل أيام، حيث جزم بعدم وجود تدخلات في السياسة التحريرية وأنها تخضع لرؤية رؤساء التحرير.
وأكد صفوت العالم أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة أن أي تغير إيجابي يتطلب منح الفرصة لمتخصصين لتشريح الأزمة وتقديم توصيات قابلة للتنفيذ بمنأى عن المصالح شخصية أو الرضوخ لمراكز قوى، لأن تغيير الصورة الذهنية عن الإعلام يبدأ بوضع قواعد تضمن تعدد الأصوات.
ارتداء بعض نواب البرلمان المحسوبين على دوائر حكومية ثوب المعارضة محاولة لإقناع الشارع بأن السلطة نفسها غير راضية عن الوضع الراهن
وأشار لـ “العرب” إلى أن دخول أعضاء البرلمان على خط أزمة الإعلام يعكس وجود خلل حقيقي يتطلب حلولا عاجلة لأن هناك حالة غضب واسعة في صفوف الجمهور المستهدف تدفع الحكومة فاتورتها في وقت حرج، وهي بحاجة ملحة إلى إعلام قوي له نفوذ ومخالب وتأثير يستطيع إقناع الناس بالإيجابيات ويظهر أيضا السلبيات، وهذا التوازن هو ما يحقق صالح الحكومة والشارع معا.
ويتناقض الانحياز الإعلامي للجهات الحكومية وتجاهلها لرؤى وتطلعات الشارع مع دعوة الحوار الوطني التي أطلقها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي كبداية للانفتاح السياسي ورفع سقف الحريات وزيادة هامش الاشتباك مع الحكومة في بعض القضايا تحقيقا للمصلحة الوطنية، لكن الإعلام بقي على حاله مكرسا لسياسة الصوت الواحد.
ومن المفترض أن تصبح الحريات الإعلامية المدخل الذي تُبنى عليه الحريات السياسية، ولأن غالبية الصحف والقنوات أسيرة للصوت الحكومي، سواء طُلب منها ذلك بوضوح أم لا، فإن وسائل الإعلام سوف تظل كما هي واقفة عند نقطة بعينها، حتى يأتي التغيير بالأمر المباشر من أعلى سلطة في البلاد، طالما أن نسبة كبيرة من القائمين على إدارة وتنظيم المشهد بلا أفق أو طموح للتغيير الذاتي.
وتُدرك الحكومة جيدا أنه لا سبيل لإقناع الشارع بوجود تغيير إلى الأفضل في الإعلام، طالما بقيت الوجوه ذاتها مهيمنة على المشهد، في الصحف أو القنوات الفضائية، والأمر بحاجة إلى عناصر جديدة تدرك طبيعة متطلبات المرحلة المقبلة وتقنع الجمهور بأن الوضع تغير، أما بقاء الوجوه في مواقعها فإن كل محاولة للتقارب بين الإعلام والمواطن العادي سوف تبوء بالفشل.
وهناك عناصر معروف عنها الكفاءة والمهنية تشارك في صناعة القرار الإعلامي، لكنها إما عاجزة عن تفكيك مراكز القوى التي تضرب المنظومة أو يتم غل يديها حتى لا تشارك في إقصاء أسماء ضعيفة مهنيا، ليس لها بصمة في المؤسسة المسؤولة عن إدارتها، وبالتالي فإن التغيير إلى الأفضل سيبقى مرهونا بإرادة رسمية قوية تمنح الفرصة للكفاءات وتعيد صياغة الإعلام وفقا لرؤى عصرية.
