انتفاء علة تحريم رسم ذوات الأرواح ونحتها

لا يزال الكثيرون في المنطقة العربية مصدقين بوجوب تحريم رسم "ذوات الأرواح" ونحتها، دون نص قرآني واضح، بل يستندون على أحاديث نبوية، ويتجاهلون أخرى، متبعين ما تتميز به ثقافتهم التي تجعلهم يقبلون الشعر الغزلي الإباحي في حين يضعون قيودا على التصوير.
حدث هذا عندما كنت بالصف الثاني الابتدائي، وفي حصة التربية الفنية أتاني معلم المادة من جنسية عربية معجبا؛ بما لديّ من رسومات ولكنه فاجأني عند ما قال “ضع خطا على رقبة – الرا ڨل – أي الرجل” حينها صعقت بما قال معلمي.. وبلهجتي وسجيتي الطفولية.
قلت له: ليه يا أستاذ؟
فأجاب: حتى لا يكون فيما رسمت روح..؟ اللي بترسمه ده حرام.. ومضى غير مكترث.
هنا توقفت وأنا في حالة ذهول طفولية، مزيج بين عدم الاستيعاب لما يقصده معلمي وتساؤل كيف لرسوماتي أن تكون لها أرواح مثلنا؟ وهل الحلال والحرام توقف عند رسومات طفل مقبل على الحياة متحفز بفضول الاكتشاف والدهشة من كل جديد.
إلا أني لم أستجب لطلب المعلم حيث أن فطرة الطفل جلال وسجيته آنذاك رفضتا هذه الأدلجة من ذلك المعلم المؤدلج. بعد رفضي مارس ذلك المعلم سلطته الإقصائية منزويا بظلال التقية فأخذ كراستي المتخمة برسوماتي مدعياً أنه سيزين ممرات المدرسة برسوماتي الجميلة، بيد أن الكراسة لم ترجع لي ولم أر ممرات المدرسة تزدان برسوماتي!
وبعد مضي ما يزيد عن الثلاثة عقود على هذا الموقف يجدر بي أن أذكره لسببين الأول “الإحباط” هذا الشعور المرير الذي مارسه معلمي الإقصائي ومن كان على شاكلته من المؤدلجين، فقد أسقى ذلك الطفل الإحباط أكثر من تحفيزه كمبدع صغير، وكم من المبدعين الصغار قد قُتلت مواهبهم قبل ميلادهم على أيادي أناس مؤدلجين سلفا، غير أن القدر الذي رماني بصفوف هذا المعلم.. ذات القدر نقلني العام التالي إلى مدرسة أخرى ومعلم آخر فشتان بين معلم يقتل المواهب ومعلم يحفز المواهب ليرتقي الإنسان فتسمو الأمة.
◙ ثقافة الجزيرة العربية صوتية لذلك تقبل العامة من العرب تحريم الرسم لأن ثقافتها لا تنتمي لهذا الموروث
حياتنا مليئة بالتناقضات والازدواجية قد نُعلّم شيئا ونكتشف حين تغدو بنا السنين أن بعض ما تعلمناه في الصغر ما هو إلا كذبة كبيرة بحجم الظلام قد يتدارك البعض منا ذاته قبل فوات الأوان، ولكن البعض الآخر تمضي به السنين كقرطاسة تتلاعب الرياح بها كيفما اتفق.
أما السبب الثاني هو لب الإشكالية الذي اتكأ عليها ذلك المعلم الإقصائي وهي تحريم رسم ذوات الأرواح ونحتها؛ بعد قراءة بحثية متفحصة بهذا الأمر تبين لي أن ثمة مستويات للتحريم والنهي في رسم ذوات الظل ونحتها، فمنهم أي العلماء من يرى بالتحريم المطلق للرسم والنحت والتصوير وآخرون لديهم استثناءات كالضروريات مثل صور الهوية الوطنية أو مجسمات لهدف التعليم.
فبحسب رأي جمهور العلماء أن العلة في تحريم رسم ذوات الأرواح أو نحتها هو التعبد لهذا الصنم أو ذاك.
والأحاديث التي استندوا عليها جاءت مطلقة في تحريم الصور، ولم تفرق بين المجسّم، وغير المجسّم، ويؤكدون بإصرار أن التحريم باق إلى يوم القيامة، مستندين على حديث: ابن عباس عن الرسول (ص) قال: “صارت الأوثان التي كانت في قوم نوحٍ في العرب بَعْدُ أما وَدٌّ كانت لقبيلة كلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطيف بالجوف في اليمن عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نَسْر فكانت لحِمير لآل ذي الكَلاَع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنسّخ العلم عُبدت”.
وثلة من العلماء يجيزون الرسم المسطح لأنه ليس من ذوات الظل ” التشكيل والتصوير فوتوغراف” بينما يحرّمون نحت التماثيل ثلاثية الأبعاد ذوات الظل والعلة بالتحريم بزعمهم هي المضاهاة بخلق الله عز وجل، استناداً على بعض الأحاديث منها “إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصوّرون”، وحديث آخر “أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله”، وأيضا “إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة” (رواه البخاري ومسلم).
تنويه المقصود بالمصوّرين أي هم النحاتون والمقصود بالصور أي التماثيل.. استناداً على قولة تعالى “هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (سورة آل عمران – 6)، و”يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) (سورة الانفطار 6 – 8).
من هؤلاء فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وفضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله وهما يريان بالتحريم المطلق لرسم ذوات الأرواح ونحتها ويريان بوجود استثناءات مِنْ عمومِ حرمة التصوير والتماثيل مثل صور الهوية الوطنية ونحوها أو لهدف التعليم ولُعَبُ الأطفال من العرائس والدمى فيُباحُ اقتناؤها للأطفال مستندين لحديثِ أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالَتْ: “كَانَتْ تَلْعَبُ بالبَنَاتِ عِنْدَ رَسولِ اللهِ (ص) ، قالَتْ: وَكَانَتْ تَأْتِينِي صَوَاحِبِي فَكُنَّ يَنْقَمِعْنَ مِن رَسولِ اللهِ (ص)، قالَتْ: فَكانَ رَسولُ اللهِ (ص) يُسَرِّبُهُنَّ إلَيَّ. وَقالَ في حَديثِ جَرِيرٍ: كُنْتُ أَلْعَبُ بالبَنَاتِ في بَيْتِهِ، وَهُنَّ اللُّعَبُ”. (رواه مسلم).
والقليل من العلماء يحللون رسم ذوات الأرواح ونحتها وتصويرها مستندين على القياس بانتفاء علة التحريم الذي أتى بوقت محدد ولسبب محدد وقد اندحر السبب بوعي بني الإنسان وبالسيف الإسلامي ومضى الوقت ليمسي تاريخاً والتحريم زال بانتفاء العلة وهي عبادة الأوثان والأصنام.. قياسٍا بالحديث عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه “أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن مُتعةِ النِّساءِ يومَ خَيبَرَ،” قال (ص) “فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم “. فالأصل في النهي هو التحريم ولكنه انتفاء علة النهي بنهاية واقعة خيبر.
وقلة من العلماء يرون أن المحرمات فقط تلك التي أتت بنص صريح في القرآن الكريم وما سواها مباح أو مكروه ومنها رسم ذوات الأرواح ونحتها والتحريم بهذا الأمر قد زال بانتفاء العلة وهي التعبد بالأوثان والأصل في الأشياء الإباحة.
بدا واضحاً وجلياً التباين بالآراء لدى العلماء حول موضوع رسم ذوات الأرواح ونحتها وتصويرها، فالأمر بحقيقته اختلاف لدى بني الإنسان أكانوا من العلماء أو من عامة البشر. وإذا اختلف أهل العلم هل يحق لنا نحن العامة من الناس أن نرجع للقاعدة الفقهية "أن الأصل في الأشياء الإباحة”، والاختلاف بين العلماء هو رحمة للمسلمين ومصلحة للعامة كما قال فضيلة الشيخ ابن باز.
◙ قلة من العلماء يرون أن المحرمات فقط تلك التي أتت بنص صريح في القرآن الكريم وما سواها مباح أو مكروه
أتساءل هنا.. إذا كان التحريم والاستناد مقتصر على الأحاديث النبوية لماذا لم يؤخذ بهذا الحديث “ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً”. (أخرجه البزار والطبراني والبيهقي من حديث أبي الدرداء بسند حسن).
بغض النظر عمّا سبق وبغض النظر عن القاعدة الفقهية “أن الأصل في الأشياء الإباحة” وبغض النظر أيضا عن حول اختلاف العلماء “إن اختلاف العلماء ما هو إلا رحمة من الله”، يبدو لي لمعرفة الصحيح بين المتباينين بالفتاوي والآراء لا بد لنا أن نعود إلى التاريخ لنتبين من هناك ونتتبع الأمر، فالتاريخ يعود بنا إلى فتح بيت المقدس وفتح مصر وهما الفيصل بالأمر إذ نجد أن المسلمين العرب تجاهلوا التماثيل والمنحوتات التي وجدوها في طريق فتوحاتهم، لم ينظروا إليها باعتبارها أصناماً من الحجارة لا أكثر وليست كأصنام الجاهلية التي تعبد والشواهد كثير على ذلك فهي أيّ التماثيل مثل أبي الهول والمسلات الفرعونية وهي باقية إلى يومنا هذا.
الشاهد هنا: هل نحن مسلمي هذا الزمان أكثر علماً بديننا من أصحاب رسول الله (ص) أمثال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة عمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، ونحن نعلم أن رسول الله قد أمر عمر بن الخطاب إبان فتح مكة المكرمة وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها الرسول حتى محيت كل صورة فيها.
وعندما فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس ومصر التي تختزل الكثير من التماثيل ومسلات عملاقة وفسيفساء لحضارات سابقة لم يقم بذات الفعل عند فتح مكة فمروا بها متجاهلين تلك الأصنام وغيرها ولم تحرك له أو لأصحابه ساكنا ولم يحطموها أو يعبثوا بها.. يا ترى لماذا؟
أما عن الجانب النقدي ويبدو لي أن هناك أسبابا فيسيولوجية تراكمية لقابلية تحريم نحت ذوات الأرواح ورسمها وبقائه إلى يومنا هذا وهي أن ثقافة عرب الجزيرة العربية هي ثقافة صوتية أكثر منها تصويرية لذلك تقبل العامة من العرب تحريم الرسم ليس لأنه حرام بقدر ما أن ثقافتهم لا تنتمي لهذا الموروث والنقيض نجده في بعض القصائد الشعرية “الصوتية” بالعصر الإسلامي بتعدد حقبه قصائد ماجنة حد الفجور ولَم يحرم الشعر بسبب هؤلاء القلة من الشعراء بل البعض ما زال يتغنى بها.