انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان: حتى لا تبقى مجموعة طوائف متصارعة

قصة الموارنة مع كرسي الرئاسة الأولى هي "قصة دموية" تتخلّلها حروب كلامية تستمر لسنوات وعقود لا تنتهي فلماذا نضع هذا "الفخ" أمام الموارنة، فخّ الحروب والانقسامات الحادّة والخلافات والسجالات والاتهامات.
الجمعة 2022/09/02
"لوثة" رئاسة الجمهورية تصيب معظم الموارنة

تنتهي المهلة الدستورية لرئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون في 31 تشرين الأول – أكتوبر من العام الحالي. منتصف تلك الليلة سيترك الرئيس قصر بعبدا، أو هكذا يفترض أن يحصل. أما المهمة الدستورية لانتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية فتبدأ قبل ستين يومًا من انتهاء الولاية الرئاسية.

غير أن الوقائع تُشير إلى صعوبة انتخاب رئيس جديد بسبب المداخلات الخارجية والداخلية. وهذا قد يستدعي الوقوع في فراغ رئاسي جديد، كما حصل مع انتخاب العماد ميشال عون وقبله مع العماد ميشال سليمان، وقبل ذلك مع نهاية ولاية الرئيس أمين الجميّل (قبل اتفاق الطائف) وتشكيل حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش يومئذ العماد ميشال عون.

إذن، الاتفاق على شخص رئيس جديد للبلاد يشغل الرأي العام اللبناني والخارجي، والخوف يستمر من وقوع فراغ جديد واضطرابات اجتماعية وأمنية، خاصة في ظل انهيار الدولة على كل الأصعدة وإفلاسها وحالة البؤس واليأس التي وصل إليها اللبنانيون.

لكن “لوثة” رئاسة الجمهورية تصيب معظم الموارنة، قيادات وشخصيات سياسية واقتصادية. جميع هؤلاء مرشحون للرئاسة والأكفاء من بينهم وغير الأكفاء، المجرّبون وغير المجرّبين، القادرون وغير القادرين… كل ماروني مرشّح للرئاسة حتى ولو تحوّل إلى “أضحوكة” في نظر الآخرين.

أهمية الحضور المسيحي في الشرق كانت وراء فكرة انتخاب رئيس مسيحي للبنان منذ تأسيسه. الموارنة وهم غالبية المسيحيين في لبنان اختاروا أن يكون الرئيس الأول مارونيًا. لكن رئيس الجمهورية في زمن الانتداب الفرنسي لم يكن من الطائفة المارونية فقط. فالرئيس شارل دباس (الأرثوذكسي) هو أول رئيس للبنان بعد وضع الدستور اللبناني موضع التنفيذ وبقي في الرئاسة بين الأعوام (1926 – 1934) وكان رئيس مجلس الشيوخ يومئذ الشيخ محمد الجسر. كما أُنتخب أيوب ثابت (إنجيلي) رئيسًا للبنان عام 1943، وعندما استقال خلفه بترو طراد (أرثوذكسي) عام 1943 أيضًا، في سدّة الرئاسة.

اليوم انتخاب رئيس جديد للبلاد يسبّب انقسامات حادّة و"حروب إلغاء" لا يعرف إلاّ الله، إلى أين تصل، ومتى تنتهي!

تاريخ لبنان يدلّ على أن رئيس الجمهورية يكون مسيحيًا وليس مارونيًا بالضرورة (وأنا الماروني أقول ذلك). لأن هذا التخصيص أبعَدَ سياسيين مسيحيين بارزين غير موارنة عن سدّة الرئاسة أمثال: الدكتور شارل مالك، غسان تويني وفؤاد بطرس (أرثوذكس) ووزير الخارجية الأسبق فيليب تقلا (كاثوليك) وسواهم من الشخصيات المسيحية القادرة على حكم لبنان بعيدًا عن الأنانيات الضيّقة والمحسوبيات والارتهان الداخلي والخارجي.

اليوم انتخاب رئيس جديد للبلاد يسبّب انقسامات حادّة و”حروب إلغاء” لا يعرف إلاّ الله، إلى أين تصل، ومتى تنتهي!

“قصة” الموارنة مع كرسي الرئاسة الأولى، هي “قصة دموية” تتخلّلها حروب كلامية تستمر لسنوات وعقود لا تنتهي. فلماذا نضع هذا “الفخ” أمام الموارنة، فخّ الحروب والانقسامات الحادّة والخلافات والسجالات والاتهامات.

في هذه المرحلة الصعبة، مرحلة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي التي لم يعرفها لبنان في تاريخه، يمكن أن نطرح السؤال: أيّ رئيس للبنان يكون قادرًا على انتشاله من الواقع المتردي الذي يعانيه، أو من “جهنم” بلغة الرئيس ميشال عون؟ أيّ رئيس يحمل رؤيا اقتصادية ومالية واجتماعية وإنسانية سيحمل على منكبيه مسؤولية كبرى تتجاوز بصعوبتها كل المسؤوليات وكل التبعات المترتبة على الرئيس الأول في البلاد؟ وهل يكون قادرًا على إخراج لبنان واللبنانيين من نفق الجوع والعزلة والانهيار؟

لا شك أن المرحلة صعبة… والتراشق اللفظي بين القيادات المارونية لم يصل بعد – على حدّته – إلى مستوى التراشق “بالمدفعية الثقيلة” التي يحلم الكثيرون من هؤلاء باستخدامها ضد منافسيهم في رئاسة الجمهورية!

حبّذا لو يبقي المسيحيون على الرئاسة الأولى وإعطائها على طبق من ذهب لكل مسيحي قادر ومؤمن بلبنان، لإخراجه، بالتضامن الكلّي، مع القيادات الإسلامية من أزماته التي تهدّد وجوده وبقاءه ككيان مستقل. حبّذا لو يدرك الموارنة دقّة المرحلة الراهنة وصعوبتها، لمشاركة إخوانهم من الطوائف المسيحية الأخرى في تحمّل هذه المسؤولية التاريخية، وعدم حصر موقع رئاسة الجمهورية بالطائفة المارونية حصرّا. الأمثلة التاريخية عديدة، ومن الأفضل أن يتحرر الموارنة من “لوثة” رئاسة الجمهورية التي تحوّلت إلى متراس لقيادات هذه الطائفة وساهمت في تقسيم الموارنة وتقزيم وأدوارهم التاريخية في إنقاذ لبنان.

العديد من المفكرين والأدباء اقترحوا أن يكون رئيس جمهورية لبنان مسيحيّاً لا مارونيّاً حصراً. بين هؤلاء الدكتور فيليب سالم، بعض محاضري “الندوة اللبنانيّة” وبينهم مؤسّسها المفكّر ميشال أسمر وصديقه الفيلسوف رينه حبشي، المفكر الأب الدكتور يواكيم مبارك، وغيرهم.

في النتيجة، المهم أن يبقى لبنان ويستمر منارةً تشعّ على المتوسّط، لا مجموعة شعوب متصارعة تفتك بها أمراض الطائفية والمذهبية وتكاد تودي بها.

إنّ بناء الدولة في لبنان يجب أن يندرج ضمن نظرة إنسانيّة وفكريّة جديدة تقوم على بناء وطن وفق أسس العدالة الاجتماعية، وإخراج المواطن من فرديّته وطائفيّته ليصبح هاجس الناس والحاكم المصلحة العامّة، لا المصالح الشخصيّة لأسياد الطوائف والمذاهب.

9