"اليوم تُسأل" مسرحية تكشف وهْم امتلاك الحقيقة المطلقة

بكتابة مسرحية خارجة عن المألوف، يقدم المخرج التونسي سامي الجويني عمله المسرحي الجديد “اليوم تسأل” الذي يفكك وهم امتلاك الحقيقة، موظفا لعبة “الخربقة” الشعبية وما تحمله من دلالات إلى جانب تطرقه إلى حياة الباحث العلمي وما يفرضه البحث والتعلم من تحرير للعقل من قيود المعلومة الواحدة والحقيقة المطلقة التي لا تقبل التصحيح والتغيير والتعديل.
تونس - تجد الدوغمائية أو ما يعرف بوهم امتلاك الحقيقة انتشارا واسعا في المجتمعات العربية والإسلامية، فهي طريقة التفكير الأكثر انتشارا بين الفرق والمذاهب وحتى طالبي العلم؛ فالكثير منهم لا يقرون بأن “حقيقتهم” وأفكارهم قد تحتمل شيئا من الخطأ أو النقص، ويرون أن ما يحوزونه من معارف ومعتقدات لا يقبل النقاش والتغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية أو السياقات المكانية والاجتماعية أو حتى مستوى وعي مخاطبهم ومناقشهم.
حول هذه الفكرة تدور مسرحية “اليوم تسأل” التي تناقش مدى غرور المجتمعات العربية وخاصة طالبي العلم بالحقيقة التي يمتلكونها ويحتكرونها ويمنعونها من الخضوع للتجريب والنقاش والتحليل.
وتُلفت مسرحية “اليوم تُسأل” انتباه المتفرّج منذ الوهلة الأولى إلى الجماليات البصرية التي تميّزها، فخشبة المسرح حوّلها المخرج التونسي سامي الجويني إلى ما يشبه مساحة “الخربقة”، وهي لعبة ذهنية شعبية تقليدية ومسليّة ومنتشرة بكثرة في تونس وفي العديد من مناطق المغرب العربي.
وعلى رقعة “الخربقة” تدور أحداث مسرحية “اليوم تُسأل”، وهي من تأليف الدكتور زهير بن تردايت وإخراج سامي الجويني وأداء الممثلين محمد نجيب بالضيافي ويحيى فايدي وشيماء فتحي وأحمد بالشيخ وجهاد يحياوي، وموسيقى لصابر محواشي وإنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بزغوان، وذلك بإدارة الفنان المسرحي الطاهر عيسى بالعربي.
وتمّ تقديم العرض ما قبل الأوّل لهذا العمل مطلع شهر يوليو الحالي. وتدور أحداثه حول طالب في مرحلة الدكتوراه يتقدّم لمناقشة بحث أكاديمي أمام اللجنة التي ترفض عمله وتدعوه إلى مراجعة أفكاره أو تغيير موضوع أطروحته، فيتمسّك بموضوع البحث ويُصرّ على إعادة مناقشته، وتتطّور الأحداث وتدخل الشخصيات في متاهات وصراعات.
وهذه المسرحية عمل يتجاوز ما هو تجريبيّ، وهي بحث حرّ بكتابات مسرحية خارجة عن المألوف اعتمادًا على مقاربات مسرحية عالمية منها “بيتر بروك”، إلى جانب توظيف بعض المدارس الفنية في لعب الممثل على خشبة المسرح، ومنها ما يُراوح بين الأداء الباطني للشخصيات والأداء الخارجي للممثّل كلعب دور المهرج والتضخيم وأسلوب الإضحاك.
وهذه التقنيات أدت وظائف عديدة أهمها الرفع من نسق العرض الذي اتخذ منحى تصاعديا وعدم السقوط في روتينية الأحداث، وكذلك إراحة الجمهور من عناء تتابع الأحداث من خلال بعض المواقف الهزلية الساخرة.
وفي مجال لعب الممثّل على الخشبة راوح أداء الممثلين أيضا بين السكون تارة والهيجان تارة أخرى، وذلك انسجاما مع خصوصية كلّ مشهد وكلّ موقف للتعبير عن أحاسيس الوجع والظلم والطغيان والتسلّط والصراع. وهذه الخصوصية الفنية وظّفها المخرج أيضا في تصعيد إيقاع العرض الذي دام نحو 70 دقيقة، وذلك تماشيا مع ذروة الأحداث وبنية المسرحية التراجيدية.
ويبدو اهتمام المخرج سامي الجويني بالخصائص الفنية للعرض جليّا في العناصر السينوغرافية المميّزة للعرض وأهمها تقنية الإضاءة التي شكّلت مساحة “الخربقة” لتكون الفضاء المكاني المحوري للمسرحية، إلى جانب الفضاء المكاني الثاني وهو قاعة المناقشة وفضاء مكاني آخر هو الفضاء الافتراضي.
وقد تضمن الفضاء المكاني الأول “الخربقة” العديد من المقاصد والدلالات، فهو رقعة متشعّبة كثيرة المسارات والمتاهات وحلبة للصراع الفكري. وفي مسرحية “اليوم تُسأل” بدت “الخربقة” مساحة للصراع بين الشخصيات على غرار صراع الطالب مع اللجنة أو صراع عضو اللجنة مع العضوة المقرّرة، كما كانت مجالا للصراع الداخلي بين الشخصية وذاتها، فكشفت عمّا يخالج الشخصية من تمزّق في الذات واضطراب نفسي فكان الأداء أكثر صدقا وغابت مظاهر القسوة والعنف الخارجي عن لعب الممثلين على الركح، ولذلك يمكن توصيف الصراع بـ”الصراع الهادئ”.
أداء الممثلين راوح بين السكون تارة والهيجان تارة أخرى، وذلك انسجاما مع خصوصية كلّ مشهد وكلّ موقف
والملفت للانتباه أيضا في المسرحية أن الشخصيات تتصارع فيما بينها وتتفرّق ولكنها تعود إلى النواة وهي مركز الخشبة الذي كان الطالب يلجأ إليه كلّ مرة بعد رحلة من المطبات والعراقيل التي اعترضته في مسيرته الجامعية، فهذا الطالب ظلّ أغلب الوقت في مركز الخشبة وقد أراد المخرج من خلال هذا الاختيار الموظّف بعناية تركيز انتباه الجمهور على هذه الشخصية المحورية في العرض الثابتة في قراراتها وقناعاتها رغم الإغراءات بنيل درجة الامتياز شرط تغيير موضوع أطروحة البحث الأكاديمي.
وحافظ المخرج على النص الأصلي للمسرحية باللغة العربية الفصحى للدكتور زهير بن تردايت وأضاف إليه نصّا باللهجة العامية التونسية فأفرزت هذه المقاربة تزاوجا بارعا بين اللغتيْن ووصْلا عجيبا بين زمن الماضي وزمن الحاضر والقضايا المطروحة في كلا الفترتيْن، وهي قضايا تتكرّر رغم التقدم في الزمن.
وانطلاقا من الخصائص الفنية المميّزة للمسرحية حاول المخرج تسليط الضوء على الحياة الجامعية باعتبار أن الجامعة هي المؤسسة التي تحدد مستقبل الطلبة بصفة عامة وتحدّد اختياراتهم وتوجّهاتهم في الحياة على الصعيد المهني والفكري والإنساني. كما تطرّق إلى الإشكاليات والمسائل التي تعوق حرية البحث والتفكير وسدّ الطرق أمام كلّ نفس فكري مجدّد وخارج عن المألوف، إلى حدّ نعته بالجنون وإيوائه مستشفى الأمراض العقلية.
ويُسائل هذا العمل فئة من النخب الجامعية التي تدّعي امتلاكها للحقيقة المطلقة ولا تقبل النقاش حول الأفكار والمواقف. ولم ينسَ المخرج أن يعرّج على قضايا أخرى منها ما هو اجتماعي، إذ كانت الطبقات الاجتماعية ممثلة بجميع حلقاتها ابتداءً من الفئات الضعيفة والهشة (حارس الجامعة) وصولا إلى مركز القرار وصاحب السلطة (رئيس الجامعة)، حيث غالبا ما تكون الفئات الهشة هي الحلقة الأضعف وتدفع ثمن القرارات الخاطئة والعشوائية، وهو ما تجلّى في موت “حارس الجامعة” الذي لم تكن له أي علاقة بالتطورات الحاصلة بين الطالب ولجنة المناقشة وإدارة الجامعة، بل إن رئيس اللجنة ارتقى إلى رئيس للجامعة وأصبح عضو اللجنة كاتبا عاما للجامعة، بينما ظلّ الطالب على ما هو عليه سابقا، أي أنه لا يزال طالبا في مركزه.
وتنتهي المسرحية بمشهد الطالب رفقة الفتاة التي أحبها وهما في المطار يهمّان بالمغادرة، وهي ليست مغادرة للبلد بقدر ما هي هروب من الواقع السائد الذي يتّسم بالضبابية وانهيار القيم وتزايد الهوّة بين الطبقات الاجتماعية. وكأن المخرج أراد أن يقول إن شرط التغيير داخل المجموعة لا يكتمل إلا عندما يُصبح هذا التغيير فرديّا.