الوعود الانتخابية تفندها صلاحيات الرئيس

سياسيون يروجون أن الإعلام يصنع الانتخابات والرؤساء لتحميله مسؤولية فشلهم.
الاثنين 2019/09/09
أزمة ثقة

تشكل المناظرات التلفزيونية بين مرشحي الرئاسة التونسية والتي انطلقت السبت، ذروة الحملة الانتخابية ونقطة تحول في السياسة التونسية قبل الانتخابات المقرر إجراؤها في 15 من سبتمبر الجاري، وتعد خطوة جديدة للديمقراطية الوليدة في تونس، غير أن التونسيين لا يتطلعون إلى فحوى مضامين برامج المرحشين على الرغم من تنوعها وتعددها بثقة، حيث ألقى الفشل في إدارة الأزمة الاقتصادية الخانقة بظلاله سلبا على الاستحقاق الرئاسي.

يحكى أن رجلا شكا ابنه إلى القاضي فقال له إن هذا ابني يشرب الخمر ولا يصلي، فسأله القاضي فأنكر فأمره أن يقرأ شيئا من القرآن فبسمل وأنشد يقول “علِق القلبُ ربابا… بعدما شابت وشابا… إن دين الله حق… لا أرى فيه ارتيابا” فاغتاظ الأب قائلا إنه سرق مصحف الجيران البارحة وحفظ منه شيئا فصاح القاضي ويْحكما، أتحفظان القرآن ولا تعملان به؟

وتذكرنا حكاية الأبشيهي في المستطرف بجوانب قاتمة من الحملة الانتخابية في تونس، وإن لم تكن كلها كذلك. فيها الحمق نتيجة الجهل والكذب والتحيّل والفساد، جهل ثلاثتهم بالقرآن مع الإيهام بأنهم يعلمونه ويعملون به وكذب الأب بادعاء سرقة ابنه للمصحف وتحيل الابن على أبيه والقاضي بإنشاد الشعر بدل تلاوة القرآن وفساد القاضي بالقضاء بما لا يعلم بل بما يفتريه عليه المتقاضون.

ووجه الشبه الأهم بين ثلاثتهم والمعنيين بالحملة الانتخابية التونسية أن الأب والابن والقاضي يعلمون فساد أمرهم ويظهرون غير ذلك تماما كما يعلم المتفاجئون بتردي الحملة أنها لا يمكن أن تكون على غير الوجه الذي جاءت عليه لأنّهم يدركون كلهم أن عفن الحياة العامة على امتداد سنوات لا يمكن أن يفضي إلى حملة انتخابية نظيفة وسليمة.

فإذا كان مضمون الحملة الانتخابية، من الناحية الإعلامية، هو أن يخبر الصحافيون المواطنين بما يقوله المرشحون ويفعلونه في تلك الفترة، قصد إقناع الناخبين للظفر بأصواتهم، فإنهم لا يملكون الشيء الكثير لقوله، ويصعب بل يستحيل أن تؤدي الحملة تلك الوظيفة إذ لا شيء يوعد التونسيون به.

يدرك التونسيون أن في الانتخابات الرئاسية رهانا واحدا وهو موقع الرئيس القادم أيديولوجيا، مما يعني أن الحديث عن الرهانات الاقتصادية زيف وكذب بالنظر إلى صلاحيات رئيس الجمهورية

والحملة مطلقا وعود قد يفي البعض بها وقد يتنكر لها البعض الآخر غير أن المرشحين للانتخابات الرئاسية التونسية لا يملكون وعودا إذ أن الوضع الاقتصادي والمالي في البلاد على أسوأ أحواله منذ عقود. فإذا عجز الذين حكموا البلاد عن تحسين وضعهم في خمس سنوات، بل عن وضع حد لتدهور أوضاعهم إلى القاع، فبمَ سيعدونهم؟

كان يمكن أن يحدث المرشحون الناس كما فعل نلسون مانديلا في حملة انتخابات 1994 عندما كان يقول للناخبين “لا تتصوروا أنكم ستركبون المرسيدس أو تملكون مساكن بمسابح… صحيح أنكم ستملكون كرامتكم، أما أوضاعكم الاقتصادية فانتظروا بداية تحسنها بعد خمس سنوات”. كان الرجل صريحا ولم يعدهم بشيء بل أخبرهم بأن تحسين أوضاعهم مؤجل إلى ما بعد نهاية مدته الرئاسية. لقد وعدهم بلباقة أنه لن يترشح لعهدة ثانية وكان على عهده.

والمرشحون التونسيون غير قادرين على فعل ذلك لأن ثقة التونسيين بهم اهتزت كما تدل على ذلك استطلاعات الرأي على امتداد سنتين على الأقل. فكيف يثق التونسيون بمن يعدهم بعصفورين على الشجرة وهو لم يعطهم شيئا والعصفور بيده؟ ولقائل أن يقول إن من المرشحين من لم يتولّ مناصب عليا في الدولة وينبغي أن لا يظن به التونسيون ظن السوء. صحيح غير أن التونسيين يدركون أمرا آخر.

المرشحون للانتخابات الرئاسية التونسية لا يملكون وعودا
المرشحون للانتخابات الرئاسية التونسية لا يملكون وعودا 

يدرك التونسيون أن في الانتخابات الرئاسية رهانا واحدا وهو موقع الرئيس القادم أيديولوجيا مما يعني أن الحديث عن الرهانات الاقتصادية والاجتماعية زيف وكذب بالنظر إلى صلاحيات رئيس الجمهورية التي تقتصر على الدبلوماسية والدفاع وجزء من المسائل الأمنية، في حين أن رئيس الحكومة الذي بيده مقاليد البلاد غير معني بالانتخابات أصلا بما فيها التشريعية التي ينتخبون فيها أحزابا تتوافق في السلطة، بحكم النظام السياسي والانتخابي، فيتفرق دمهم بينها. فإذا كان التونسيون يرون أن وضعهم تعفن ماليا واجتماعيا على امتداد سنوات بفعل الحكام الذين أصبحوا يمقتونهم وأن عددا من المرشحين للانتخابات الرئاسية فاشلون، وإذا كانوا يعلمون حقيقة رهانات تلك الانتخابات وهم ماسكون بالجمر، وإذا لم يثقوا يوما في إعلامهم الذي ينقل لهم تلك الحملة فكيف ينتظر بعضهم حملة يتبركون بها ويطمئنون إليها؟

إن وضع البلاد المتردي عامة وصلاحيات رئيس الجمهورية المنحسرة وبرامج المرشحين إن وجدت لا تسهل عمل الصحافيين. ولذلك عاب التونسيون عليهم تحاملهم على مرشحين ومجاملتهم آخرين. وبصرف النظر عن العلاقات التي يرونها مريبة بين صحافيين وسياسيين فإن هناك صحافيين ينسون أن وظيفتهم الأولى في الحملة الانتخابية هي إخبار المواطنين باستخدام التقارير الإخبارية والحوارات.

فالحوارات في هذا المعنى أسئلة يقصد منها الصحافي الحصول على معطيات من المرشح يمكن أن يصنع من أجوبتها أخبارا تهم الناس. ويحدث أن يستوفي الصحافي الأمر لشحّ المعلومات لدى المرشح فتتحول الأسئلة إلى الرغبة في الحصول على مواقف وهو أمر مهم حتى تتحول إلى ما يشبه محاكمة النوايا فيحتد الحوار فيراه الناس تحاملا وقد يكون.

والواقع أن تحريك محور الاهتمام من برامج المرشح إلى محور شخصه، برغبة منه أو من الصحافي، هو السبب الأصلي في ذلك. مهم أن يعلم المتلقون معطيات عن المرشح غير أن الإفراط فيه يقود إلى تكرار ما ملّ الناس سماعه ويزيدهم قناعة بغياب حلول ملموسة. ولم يفت التونسيين حديث بعض القنوات مع مرشحين عن أغانيهم المفضلة أو نيتهم الحج أو حفظهم القرآن.

ثقة التونسيين اهتزت بالسياسيين
ثقة التونسيين اهتزت بالسياسيين

ويندر العثور على سياسي لم يحمّل الصحافيين ما لا طاقة لهم به والأمثلة كثيرة. فقد دون المرشح المنصف المرزوقي يوم 4 سبتمبر قائلا عما سماه باستبداد وسائل الإعلام “خارج للتو من التلفزيون بعد تسجيل الدقيقة ونصف التي تُعطى لكل مترشح لكي يقنع الشعب بانتخابه.لا أسمع إلاّ أوجز، أطلت، الفيديو لا يجب أن يتجاوز ثلاث دقائق… عما قريب ستسمع من يقول لك: لخص لي القرآن في ثلاث دقائق”.

فمن السياسيين من لا يدرك ضغوط الإعلام أو يتغاضى عنها مثل المرزوقي الذي يعلم أن التلفزيون لم يستبد به وأن ما سماه استبدادا هو قوانين هيئة يعلم علم اليقين دورها بما أنه سمى أعضاء فيها ومنهم مثل المرزوقي وغيره من يصنف نفسه “ضد المنظومة” والإعلام جزء منها فيستهدفه فتتفاقم الأمور التي تزيد في حنق التونسيين على المشهد كله.

ومنهم أولئك الذين يعتقدون أن التلفزيون يصنع الانتخابات والرؤساء فيحمّلون الإعلام والصحافيين فشلهم قبل حدوثه ومنهم من يرجو إيثارا فلا يجده ومنهم من يفترض أو قد يعلم وجود علاقات غير مهنية بين البعض من الصحافيين والسياسيين وهي علاقات لا تخطئها عين المشاهد ولا أذنه أحيانا برفع الكلفة بين صحافيين وسياسيين يتنادون في البلاتوه بالأسماء لا بالألقاب. لقد اكتسب التونسيون كفاءة مواطنية وأصبحوا فاعلين في الحملات الانتخابية 3.0 أي الحملات التي تُدار على الميديا الاجتماعية. كان ينبغي أن تكون تلك الكفاءة سدا بينهم وبين وضع البلاد المزري وإن لم يكن كذلك فكان ينبغي أن تحصنهم من خيبة الأمل في الحملة الانتخابية وهم يعلمون الأب والولد والقاضي.

مواقع التواصل تردد صدى المناظرات الرئاسية التونسية

7