الوباء واليوتيبيا السوداء

الكتابة هي الحرية وهي الشر إن لزم الأمر. يبقى علينا أن نتحلى بالجرأة في الوقت المناسب وأن نتحمّل المسؤولية كاملة في قول الحقيقة.
الأربعاء 2020/04/15
استعادة التفكير في سلطة الفراغ

العواء، هذا ما تبقّى لي وسط العزلة المقيتة التي أجبرتنا عليها لعنة الكوفيد19. في نفس هذه الفترة كنتُ أتابع عن كثب مختلف المعارض الفنيّة، لم يتبق لي اليوم غير شرفة يتيمة أطلّ بها على موقف السيّارات المقابل لمنزلي ولطخة الزفت التي أراها كلّما خرجت. ولأنّ القراءة والرسم أحبّ أمرين إلى قلبي، لجأت كما أفعل عادة إلى كاتبي الملهم الروماني إميل سيوران الذي  أعلن ذات مرة أنّ "الكتب الوحيدة التي تستحقّ أن تُكتب هي تلك التي يؤلّفها أصحابها دون أن يُفكّروا في أيّ جدوى أو مردود".

وأعتقد أنّه لم يكن يفكّر سوى في نفسه عندما كتب مؤلفه الفلسفيّ "المياه كلّها بلون الغرق" ليتحدّث في شذرات عن الزمن والدين والعزلة والحبّ والفراغ والتاريخ والموسيقى. والحقيقة أنّني أشارك مترجم الكتاب -الشاعر التونسي آدم فتحي- حين يقرّ بأنّ في الأوقات الحالكة "نحتاج إلى كتّاب مثل سيوران" ليذكّروننا بماهيتنا وحقيقتنا "المقرفة".

عندما أعدت قراءة هذا الكتاب استحضرت حادثة لي من السنة الفارطة في نفس هذه الفترة عندما التقيت بالكاتب والناقد العراقي فاروق يوسف أثناء جولة بأحد المعارض التشكيليّة بتونس، وطرحت عليه السؤال التالي: "كيف تكتب ولماذا تكتب؟"، أجابني: "أنا أكتب لأنني لست في حاجة لأحد، أنا أكتب لأحيا. أتعلمين يا صديقتي ما معنى أن نكتب عن البشاعة ونكذب؟ كما لو أننا نقتل الحقيقة بسكين قديم أين تنزف الرداءة أكثر وأكثر لتعم مضرجة بالأوساخ.

الكتابة هي الحرية وهي الشر إن لزم الأمر. يبقى علينا أن نتحلى بالجرأة في الوقت المناسب وأن نتحمّل المسؤولية كاملة في قول الحقيقة مجردة بعيدا عن الاسترزاق والمحاباة والخوف. الكتابة والرسم سيّان، لنرى مثلا ذلك الفرق الشاسع بين ما تقدّمه لنا الصورة في لوحة لبيار سولاج وأخرى لكارافاج، يشتغل كلاهما على المعتّم، ولكن في اعتقادي أنّ الأوّل قد تمكّن من الوصول بنا إلى عمق الصورة وجوهر السوّاد".

ثمّ نظر إلى لوحتي "سِلْفِي-سَلَفِيّ" وابتسم قائلا "عمل جميل ومباشر، ولكنّه مباشر أكثر من اللاّزم.. هل تعتقدين حقا أن صورك تحمل الحقيقة؟ كنت في شبابي مثلك احمل اندفاعي وتمرّدي واكتب ما اعتقدت أنّه الحقيقة. أما الآن فالكتابة هي طريقي المفتوح نحو الداخل في هذا العالم المزيف (مشيرا إلى صدره). لم أعد اكتب للذين يقرؤون، فما عاد أحدا يفتح الصحيفة صباحا، بل أكتب لحاجتي الملحّة للكتابة. يجب عليك الرسم للذين ينظرون وليس للذين يَرَوْن. ستكون الفكرة قوية لو انتهكت التجريد أكثر.

ستقولين الكثير كلما ابتعدت عن التعرية التي يقدمها لنا التشخيص. لا يكمن الجمال في تصوير امرأة عارية مباشرة وإنما في القشعريرة التي تبثها فينا أمواج ألوان شفافة. الجمال الخالص هو في الكيفية التي نقول بها الحقيقة، وليس فحسب في قولها كما هي.. حاولي أن تقفزي على أفكارك وستعرفين أنّ الحرية موجودة هناك، حيث لا نراها مباشرة".

منذ تلك اللحظة أصبحت ابحث في الفنّ عن ذلك "المكان" الذي أشار إليه فاروق يوسف، تلك الصور التي لم أراها من قبل. عن كل تلك الأمكنة المخفيّة والمتوارية التي يسمّيها اميل سيوران بــ"سيرك العزلة" أو "منابع الفراغ". ويبدو أنّ عزلتي هذه الأيام قد أجبرتني على استعادة التفكير في سلطة الفراغ، ذلك المكان الذي أشار إليه الكثير من الفلاسفة بالمعتّم والشرّير لأنّه يحمل حقيقتنا خالصة "فمن منّا وهو يبحث عن نفسه في المرآة، في شدّة العتمة، لم يُشاهد معكوسةً الجرائمَ التي تنتظره؟" يقول إميل سيوران.

يشير ميشال باستورو في كتابه "الأسود، تاريخ لون" إلى أنه يمكن لأي لون أن يرمز لشيء ولعكسه بنفس الوقت، وكما الأبيض لم يكن رمزا لليقين عند العديد من المفكرين والرسامين فإنّ الأسود يمكن أن يدلّ على عوالم لا ترتبط ضرورة بالجحيم. بدليل أنّ اللون الأسود ارتبط قديما بالخصب والقداسة والنبل، أمّا ذلك الربط بين الأسود والموت والخطيئة والشيطان فهو اختراع دينيّ محض. لقد وصف كثير من الفلاسفة أفكارهم بالمعتمة والسوداء، وفضّلوا تسمية اللاّمرئيّ بالمظلم والسوداويّ، وأطلقوا عليها تسميات كالفراغ والصمت والجنون. كما اشتغل بعض الرسامين على ماهية العتمة وجماليّة الأسود تماما كالفنّان الفرنسي بيار سولاج الذي يقول "أحبّ سلطة الأسود، جاذبيته، وضوحه وأصالته. أحبّ قوّته اللونية في التباين الذي يمنح ظهورا مكثّفا لجميع الألوان الأخرى، هو يضيء الأكثر عتمة ويضفي عليها بعدا قاتما. يزخر الأسود باحتمالات لا شك فيها تلك الاحتمالات التي أذهب للقائها وأنا متحفّز لكلّ ما أجهله".

لقد قدّم الرسام الفلسطينيّ هاني زعرب في نفس هذه الفترة من العام الفارط معرضا كاملا بعنوان "زفت" ليعبّر بالكلمة وبالمواد واللوحات عن سلطة هذا المضاد للّلون، ذلك الذي يحتفي بالقلق الذي تحدّث عنه إميل سيوران مطوّلا واعتبره "اليوتيبيا السوداء التي تمنحنا تفاصيل عن المستقبل". يلعب زعرب على مفردة "زفت" على اعتبار أنها هذا القطران الذي يملأ ذاكرته، وهي أيضاً التعبير العامي الدال على سوء الأحوال وترديها في موطنه، يستغل هذه المادة السوداء لتلطيخ قماشاته والتعبير عن الحركة والسمك والحرارة مستعيدا صورة المادة الدلاليّة، ليس فحسب بوصفها ما يعبّد الطرقات وإنّما ليقدّم معنى أن لا تكون هناك من طرقات أو سبل للخروج من مأزق اللاّوطن، ليس ثمة سوى الغبار والرماد.

يذهب بنا زُعرب في الكثير من أعماله التجريديّة إلى معنى العوالم الغيبيّة في الأشياء المفقودة كالوطن والسلام والبناء والطرقات، يقدّم لنا صورة نحو اللاّوجهة ونحو المجهول "الأسود" نحو الفراغ، يقول "أردت اكتشاف كيفية تحويل شخصية الفضاء المقدس إلى زِفْتْ. لتقليل المسافة بين الموضوع والمفهوم، للتركيز على التدمير المستمر لهذه الأرض.. الأعمال في "زفت لاند" ما هي إلا مقاربات مفاهيمية لحجم الدمار والحريق والألم. لأجد نفسي في مواجهة معنى الاشتباك بين المقدّس والملعون، سواء على الأرض أو في العمل الفني. وهنا وجدت نفسي أسأل، هل ثمة من فرق؟".

وحده الفنّ قادر على تحويل الزّفت إلى معنى من معاني الجمال، وهذا سرّ ولعي بالفنون، لذلك أعود مرّة أخرى لإميل سيوران لأقول "لو كان عليّ التخلّي عن ولعي بالفنون لما تخصّصت في غير العواء".