الهجرة الأجنبية واتجاه التاريخ

تعودنا في السرديات الغربية على القول إن هناك اختيارات محددة تسير في اتجاه التاريخ وأخرى تسير عكس اتجاهه.
كانت تلك الفكرة مرتبطة إلى حد كبير بالاعتقاد بأن البشرية محتوم عليها السير نحو الليبرالية الاقتصادية والسياسية.
فكرة ساهم في ترسيخها الأكاديمي الأميركي فرانسيس فوكوياما عندما تنبأ سنة 1989 “بنهاية التاريخ” على أساس أن الإنسانية التي تأرجحت لقرون بين مختلف الأنظمة والأيديولوجيات سوف تستقر في نهاية المطاف على النموذج الغربي للديمقراطية الليبرالية.
كانت السنة التي أصدر فيها فوكوياما المقال الذي أسس فيه لفكرته تلك سنة الموجات الارتدادية التي تلت سقوط حائط برلين وأحداث ساحة تيانمن في الصين. ظن الكثيرون وقتها أن انهيار المعسكر الشرقي سوف يعني سقوط الحيطان والأسوار التي تفصل بلدان العالم واكتساح الديمقراطية والحرية الاقتصادية وحرية التنقل لكل العوائق والحدود.
خابت الآمال بسرعة. لم يعمّ الخير نتيجة العولمة الاقتصادية. بقي الفقر والجشع يشكلان معسكرين متواجهين. وتشبثت القوى العظمى بحدودها أكثر من أيّ وقت مضى.
كانت هناك استثناءات مثل سماح أنجيلا ميركل في ألمانيا لمئات الآلاف من السوريون بطلب اللجوء في بلادها. ورحبت أوروبا خلال السنوات الأخيرة بمئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين الهاربين من لظى الحرب مع روسيا.
◄ احترام الحقوق المدنية للمواطنين مهما كانت أصولهم العرقية أو الدينية هو في نهاية المطاف من مقومات الدولة الحديثة التي دافع عنها مناضلو فرنسا وفلاسفتها ومفكروها منذ زمان
انفتحت بلدان الاتحاد الأوروبي على بعضها بعضا لكن مبدأ حرية التنقل بقي وهما عالميا. انبنت منظومة شنجن على قاعدة التضييق على مواطني بلدان الجنوب الراغبين في التنقل شمالا والتقتير في منح التأشيرات. لمّا يتذكر المرء أن مواطني شمال أفريقيا كانوا يسافرون إلى أوروبا في سبعينات القرن الماضي دون تأشيرة يشعر أن التاريخ قد أضاع البوصلة.
سقط جدار برلين لكن ارتفع ألف جدار. شيدت بلدان الاتحاد الأوروبي أكثر من سياج معدني وإلكتروني على حدودها على مسافة تمددت من 315 إلى أكثر من ألفي كيلومتر بين سنتي 2014 و2022.
وأصبحت حماية الحدود البحرية لأوروبا من تدفق مواطني البلدان الأقل حظا من النماء نحو شمال المتوسط الشاغل الأساسي لكل بلدان الاتحاد الأوروبي، وإن تميزت رئيسة الحكومة الايطالية جورجيا ميلوني أكثر من بقية الزعماء الأوروبيين بإبرام اتفاقيات المنع والتصدي للهجرات الممنوعة.
أصبح الخوف من الهجرة الأجنبية مهيمنا على الخطاب السياسي في العواصم الغربية. يتناسى الجميع طبعا مسؤولية القوى العظمى عن العوامل التي شجّعت على الهجرة من أفريقيا، من حروب تشظت من جرائها دول بأكملها وانحباس حراري دمر الرعي والزراعة في أكثر من مكان. يتناسون أيضا أن الدول الفقيرة تتحمل اليوم العبء الأكبر في احتضان المهاجرين.
وأضحى الخوف من الآخر، خاصة إذا اختلف المهاجر الأجنبي عن “أهل البلاد الأصليين” بشرة ودينا، بضاعة رائجة لدى كل الساسة الشعبويين من أقصى اليمين ومن يحذو حذوهم من أهل الوسط والانتهازيين وحتى بعض المنتسبين لليسار.
لعب ذلك دورا أساسيا خلال انتخابات البرلمان الأوروبي وفي ما سبقها من حملات افتراضية وميدانية سعى خلالها اليمين المتطرف إلى الصعود إلى سدة السلطة بتأجيج الخوف من القادمين من وراء البحر.
ولم ينته المسلسل الانتخابي المبني على الخوف والتخويف بعد. ففي الوقت الذي تتأهب فيه فرنسا لتنظيم انتخاباتها التشريعية خلال أيام وتستعد بريطانيا لاستحقاق مماثل بعد أسابيع قبل أن تنظم الولايات المتحدة انتخاباتها الرئاسية بعد أشهر قليلة يتنافس المترشحون اليمينيون (وتلامذتهم الأوفياء من بقية الطيف السياسي) على تقديم المقترحات والوعود التي تبرز تصميمهم على التصدي “لخطر” الهجرة الأجنبية. لا يهمّهم السقوط في التناقضات وغياب المنطق إن استدعت ذلك الحسابات الانتخابية.
الكل في أوروبا يسعى لجذب الكفاءات والمهارات وكل أصناف اليد العاملة الشابة من بلدان الجنوب التي يحتاجونها أمام التهرم الديمغرافي للمجتمعات الأوروبية. ومع ذلك يصر سياسيوهم على الكذب المفضوح بالزعم بعكس ذلك وتكريس سردية العداء للمهاجرين.
في فرنسا على وجه التحديد أصبح وصف المنافس السياسي بأنه “مساند للمهاجرين” شتيمة. وجّه الرئيس إمانويل ماكرون الراغب في استقطاب أصوات اليمين هذه “التهمة” لأحزاب اليسار كما وجهها حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف لماكرون نفسه.
◄ حماية الحدود البحرية لأوروبا من تدفق مواطني البلدان الأقل حظا من النماء نحو شمال المتوسط أصبحت الشاغل الأساسي لكل بلدان الاتحاد الأوروبي
لكن سعي ماكرون لركوب موجة معاداة الهجرة الأجنبية جاء متأخرا نوعا ما. سبقه إلى التحريض على المهاجرين مارين لوبان الزعيمة التاريخية لليمين المتطرف وجوردن بارديلا رئيس حزب التجمع الوطني المرشح لرئاسة الحكومة في حال تفوق حزبه في الانتخابات. وفاقهما تطرفا إيريك زمور الذي أراد التموقع على يمين أقصى اليمين .
تضافرت العوامل لجعل أقصى اليمين الرابح الأكبر من الانتخابيات البرلمانية الأوروبية الأخيرة وقد يكون أيضا الرابح الأكبر في الانتخابات الفرنسية التي جازف ماكرون بتنظيمها.
كل الدول التي تواجه ضغوطات اقتصادية واجتماعية ويزداد فيها عدد العاطلين عن العمل والمهمشين تبحث عن كباش فداء، والمهاجرون الأجانب هم طبعا أول من يؤدي المهمة. وفرنسا ليست استثناء .
من العوامل الأخرى التي فاقمت التوترات في فرنسا هي خصوصية هذه الدولة في كونها أكثر الدول الأوروبية تشددا في علمانيتها. وقد زادت في مشاعر التوجس من الإسلام والمسلمين والمهاجرين الأجانب الأحداث الإرهابية التي شهدتها فرنسا منذ 2015 وهي أحداث تبناها أفراد وتنظيمات من الإسلاميين المتطرفين .
وأمام ردود الفعل المشروعة التي أحدثتها الرجات الإرهابية داخل فرنسا تحركت السلطة. ولكنها في محاولة لدفع تهمة التساهل مع التطرف الديني عن نفسها تصرفت بعشوائية غريبة فاقمت المشكلة عوض معالجة جذورها.
من ذلك أنها وصمت سكان المناطق الفقيرة التي يسكنها الكثير من الأقليات المسلمة “بالانفصالية” في حين أن مشكلة هؤلاء اقتصادية قبل كل شيء. كما أغلقت السلطات عديد المدارس الخاصة التي اختارت أن تعرض على العائلات المسلمة مناهج تعليم دينية مثلما هو الحال في بلدان أوروبية أخرى. وزاد في التوتر سعي السلطات إلى فرض تضييقات على حرية التظاهر والتعبير بعد حرب غزة التي ألقت بظلالها لاحقا على الجدل الانتخابي المحتدم أصلا.
معظم مواطني فرنسا من المسلمين هم في الواقع مندمجون في مجتمعهم. ولا ينشدون سوى الاستقرار والتعايش مع الآخرين. غير أنه من الضروري الإقرار أيضا بأن بعض الشرائح المتهورة من بين الجاليات المسلمة كانت ولا تزال تصر على سلوكيات استفزازية، وذلك أحيانا بتحريض من تيارات متزمتة تزعم الدفاع عن “هوية” كان من الأحرى بهم أن يدافعوا عنها في بلدانهم الأصلية لا أن يزايدوا عليها في فرنسا.
خبطت السلطة خبط عشواء مدة سنوات عديدة. وها هو أقصى اليمين اليوم يستعد للبرهنة على أنه أكثر تهورا في أفكاره وسياساته إن هو وجد سبيلا لتطبيقها بعد الانتخابات. ومن اللافت والغريب أن عداء أقصى اليمين نحو الأجانب تحول إلى عداء معلن إزاء شرائح واسعة قد تشمل في الواقع أغلبية الفرنسيين.
فخلال الأيام الأخيرة كان لبارديلا كلام صادم لم يسبقه إليه إلا القليلون من متطرفي أقصى في أوروبا.
قال إن الفرنسيين “من أصول أجنبية” ليس لهم من أمر يخشونه من سياسات حزب التجمع الوطني إن هو تسلم دفة الحكومة، “ما داموا يحترمون القانون ويدفعون ضرائبهم ويحبّون فرنسا”. فجأة أصبحت الجنسية حتى بعد منحها إجراء مشروطا.
تتصرف زعامات أقصى اليمين الفرنسي على أساس أن “المواطنين من أصول أجنبية” وحاملو الجنسيات المزدوجة مشكوك في ولائهم بل هم مواطنون فرنسيون “على الورق” فقط، ويجب إقصاؤهم – قانونا – من الوظائف الحساسة.
◄ بلدان الاتحاد الأوروبي انفتحت على بعضها بعضا لكن مبدأ حرية التنقل بقي وهما عالميا. انبنت منظومة شنجن على قاعدة التضييق على مواطني بلدان الجنوب الراغبين في التنقل شمالا والتقتير في منح التأشيرات
سرديات أقصى اليمين تعيد إلى الأذهان مطبات أخلاقية سقط فيها الغرب خلال الحرب العالمية الثانية بما فيها إجراءات التمييز ضد اليهود في أوروبا وإقامة الولايات المتحدة للمحتشدات التي اعتقلت فيها مواطنيها المنحدرين من أصول يابانية.
مشكلة بارديلا انه هو نفسه من “أصول أجنبية”. البعض من أجداده من إيطاليا والجزائر. اليميني المتطرف إيريك زمور من أصول جزائرية . وبعض أجداد رئيس الحكومة ووزير الداخلية من أصول تونسية وجزائرية.
معظم الفرنسيين بل معظم سكان المعمورة في الواقع لهم “أصول أجنبية”. لا وجود لفكرة “النقاء العرقي” في التاريخ المعاصر إلا في معاجم أنظمة وتيارات لم تجلب إلا الوبال للبشرية.
من المفروض أنه لا شيء يمكن أن يجسم مسيرة التقدم البشري أكثر من ترسيخ مبدأ المساواة ونبذ التمييز بين البشر خاصة داخل الدولة الواحدة. ولا يمكن لتصويت الناخبين أن يشكل أساسا لحكم يسير بعكس المجرى الحقيقي للتاريخ.
واحترام الحقوق المدنية للمواطنين مهما كانت أصولهم العرقية أو الدينية هو في نهاية المطاف من مقومات الدولة الحديثة التي دافع عنها مناضلو فرنسا وفلاسفتها ومفكروها منذ زمان.
وكنا إلى حد الآن نخال “الحرية والمساواة والأخوة” هو شعار فرنسا الذي لا تعلو عليه حتى صناديق الاقتراع.