الهجرة إلى إسرائيل أم منها؟

في كل عام تنشر الحكومة الإسرائيلية بفخر عدد المهاجرين الجدد إليها. فبموجب قانون العودة الإسرائيلي، يحق لأي شخص لديه جد يهودي واحد على الأقل الحصول على الجنسية الإسرائيلية تلقائيًا. وقانون العودة هو جوهر المشروع الصهيوني لاستيطان يهود الشتات في أرض إسرائيل وتوفير ملاذ لليهود من جميع أنحاء العالم. وفي العبرية تسمى هجرة اليهود إلى إسرائيل “عليا”، بمعنى “الصعود أو الارتقاء”. وتنظم الحكومة رحلات جوية مليئة بالمهاجرين اليهود، والتي غالبًا ما تُستقَبل بترحيب صاخب عند هبوطها في تل أبيب.
وعلى الجانب الآخر، لا تكشف الحكومة عن عدد الإسرائيليين الذين يهاجرون من إسرائيل كل عام. وفي العبرية، تُعرَف الهجرة من إسرائيل باسم “يريدا”، بمعنى “النزول أو الهبوط”. وفي السنوات الأخيرة، اختار إسرائيليون يفوق عددهم أي وقت مضى مغادرة إسرائيل والعودة إلى أوطانهم أو تأسيس جذور جديدة في بلاد أجنبية أخرى. والعديد من الإسرائيليين من أصل أوروبي، الذين يُعرَفون بالأشكناز، يحملون جنسية مزدوجة ومن ثم فإن لديهم خيار العيش في بلاد أخرى. والإسرائيليون الذين قاموا بهجرة “عليا” يحتفظون غالبًا بجنسياتهم السابقة، ما يجعل عودتهم إلى بلادهم سهلة.
في حين ستواصل الحكومة الإسرائيلية بذل قصارى جهدها لقمع قصص الهجرة من الدولة، سيمسك الإسرائيليون بزمام الأمور ويغادرون
ولطالما كانت الهجرة من إسرائيل موضوعًا حساسًا للسلطات الإسرائيلية. ففي الفترة من عام 1948 إلى 1961، فرضت الحكومة الإسرائيلية قيودًا صارمة على الهجرة من إسرائيل من خلال تأشيرة الخروج التي غالبًا ما كانت تُرفَض.
ووفقًا للباحث في شؤون الشرق الأوسط جوزيف مسعد، غادر إسرائيل بحلول 1967 أكثر من 180 ألف إسرائيلي. واستمر هذا التوجه في الهجرة حتى يومنا هذا. ففي عام 2003 قدَّرت الحكومة الإسرائيلية أن أكثر من 750 ألف إسرائيلي (من حوالي 6 ملايين) يعيشون بصفة دائمة خارج البلد. واختار الكثيرون منهم الاستقرار في أميركا الشمالية أو أوروبا. وينبغي أن نتذكر هنا أن هذه الأرقام تشمل الفلسطينيين حاملي الجنسية الإسرائيلية الذين يغادرون إسرائيل لأسباب أخرى غير تلك التي يغادر من أجلها المواطنون اليهود.
وقد ارتبطت موجة الهجرة الحالية من إسرائيل ارتباطًا وثيقًا بالتحولات السياسية الأخيرة في البلد، وترتكز هذه الموجة بشكل أكبر على الإسرائيليين اليهود الذين يئسوا من انصلاح حال الدولة. ففي ظل انتخاب أكثر حكومة يمينية في تاريخ إسرائيل وبرنامجها للإصلاح القضائي المثير للجدل، الذي من شأنه ترسيخ قبضة اليمين على آلية الحكم لعقود قادمة، يختار المزيد من الإسرائيليين مغادرة البلد.
ومن المفارقات أن إسرائيل على وشك الحصول على إعفاء من التأشيرة في الولايات المتحدة. ولطالما انجذب الإسرائيليون للحياة في الولايات المتحدة، ولذا فإن السفر دون تأشيرة قد يسفر عن ارتفاع هائل في أعداد الإسرائيليين الذين يحاولون العيش هناك بصفة دائمة.
ويُصوِّر إسرائيلي عاد إلى وطنه المكسيك، والتقت به مؤخرًا مجلة “تايمز أوف إسرائيل”، مشاعر الكثيرين ممن غادروا إسرائيل. فيقول دانيال شلايدر “في العام الماضي، ومع كل ما شهده من جنون واضطراب، أدركت إلى أين تتجه البلد. وبعد الانتخابات الأخيرة، كانت زوجتي — التي لم تكن مقتنعة من البداية - هي التي اتخذت الخطوة الأولى وقالت إنها صارت تفهم إلى أين يتجه الشعب وكيف ستكون الحياة في البلد. يمكنك أن تقول إنها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير”.
والشعور بأن إسرائيل تتجه نحو ديمقراطية فاشلة أو دولة استيطانية يمينية استبدادية صعب بشكل خاص على قطاع التكنولوجيا الذي تتفاخر به الدولة. وقد هدد العديد من كبار المسؤولين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا في إسرائيل بنقل شركاتهم من البلد أو فعلوا ذلك بالفعل استجابةً للإصلاح القضائي الذي تطرحه الحكومة الحالية. وفي فبراير أعلن مؤسس الشركة “فيربيت” الناشئة في مجال التفريغ الصوتي بالذكاء الاصطناعي، التي يقع مقرها في تل أبيب ويبلغ رأسمالها المليارات من الدولارات، أنه سينقل الشركة إلى تكساس ويتوقف عن دفع الضرائب ردًا على جهود الحكومة لتقويض استقلال القضاء. ووعد رؤساء تنفيذيون ومستثمرون بارزون آخرون في مجال التكنولوجيا بأن يحذوا حذو مؤسس شركة “فيربيت” في حال الموافقة على الإصلاحات.
وبعد احتجاجات واسعة النطاق ضد الإصلاح القضائي، بل وتحذيرات شديدة اللهجة من حلفاء مهمين مثل الولايات المتحدة، وافق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على إيقاف تصويت الكنيست مؤقتًا على مجموعة الإصلاحات ومحاولة الوصول إلى تسوية مع أحزاب المعارضة. وقد ثبت أن هذا الأمر مؤقت؛ إذ أعلن نتنياهو مؤخرًا أن حكومته ستواصل المضي قدمًا في خططها بعد فشل اتفاقات التسوية.
وقد استشعر نتنياهو المخاطر التي يتعرض لها قطاع التكنولوجيا في إسرائيل، ما جعله يجذب الاستثمارات التي قدمتها شركة “إنتل” مؤخرًا إلى مراكز أبحاث الشرائح الإلكترونية في إسرائيل. وربما لن تجدي هذه الجهود نفعًا في النهاية؛ إذ يمكن لشركات التكنولوجيا الإسرائيلية الكبيرة العثور بسهولة على بيئات أعمال جديدة في جميع أنحاء العالم. وإذا أدت الإصلاحات القضائية إلى رد فعل دولي متوقع ضد الحكومة الإسرائيلية، فمن شبه المؤكد أننا سنشهد هجرة فعلية للمواهب الإسرائيلية من البلد بغض النظر عن الاستثمارات المقدمة من شركات مثل “إنتل” و”غوغل”.
قد نميل للقول إن موجة الهجرة الحالية من إسرائيل تحدث نتيجة الحكومة الحالية وأفكارها حول الإصلاح القضائي. لكن تاريخ المشروع الصهيوني يكشف عن استياء عميق بين الجاليات اليهودية في جميع أنحاء العالم وداخل إسرائيل منذ أن ظهرت الصهيونية إلى النور. والحكومة الحالية ما هي إلا عَرض من أعراض مشكلة أكبر بكثير، وهي فشل الصهيونية في توفير وطن يسوده العدل والأمن والازدهار للشعب اليهودي. وفي حين ستواصل الحكومة الإسرائيلية بذل قصارى جهدها لقمع قصص الهجرة من الدولة، سيمسك الإسرائيليون بزمام الأمور ويغادرون.