النهضة التي أقعدت تونس

صورة تونس، لم تعد من الأساس كما كانت. فالتسامح والاستيعاب والوسطية أخلت مكانها لصورة أخرى منذ أن احتل الإسلام السياسي المركز الأول في الحياة العامة.
الثلاثاء 2019/07/02
الإسلام السياسي نجح في أن يفرض صورته وأجندته وحلوله في البلاد

الافتراض القائل إن تونس نجحت في طي صفحة الإرهاب، ثبت أنه متفائل للغاية.

بعد العمليتين الانتحاريتين اللتين استهدفتا الشرطة في العاصمة، تبدو للإرهاب جذور أكثر رسوخا مما يمكن لأسوأ كوابيس التونسيين أن يتخيلوا. أحد أهم هذه الجذور يعود إلى أن للإسلام السياسي مكانا راسخا في الحكومة والبرلمان والنشاط العام. وهذا التيار لا يبدو قوة إلا لأنه يزعم الاعتدال في السياسة، بينما ينتج التطرف في الثقافة والتصورات.

صورة تونس، لم تعد من الأساس كما كانت. فالتسامح والاستيعاب والوسطية أخلت مكانها لصورة أخرى منذ أن احتل الإسلام السياسي المركز الأول في الحياة العامة.

كما ثبت أن ما كان يفترض باسمه أن يكون “حزب نهضة”، قد أقعد تونس قعدة لم تنشأ وقفة بعدها حتى الآن. فهو الحزب الذي جر من الغبار والفوضى والضياع وصدع الهوية ما كان كافيا ليبدو وكأنه قعدة لبحث خيالات أخرى.

ولئن ظل الفشل رفيقا مخلصا لهذا التيار، إلا أن البيئة التي صنعها ودأب على التحرك فيها، سرعان ما تحولت إلى بيئة منتجة للتطرف. إنها بيئة فقر أولا، وجهل ثانيا، وحلول قصوى ثالثا.

وسوى اغتيالين سياسيين في التاريخ المعاصر، (للزعيم النقابي فرحات حشاد في 5 ديسمبر 1952، وصالح بن يوسف الأمين العام للحزب الحر الدستوري في 11 أغسطس 1961)، كان من قعدة تونس لدى نهضة “النهضة”، أن تستفيق على اغتيالين آخرين (لشكري بلعيد، أحد مؤسسي الجبهة الشعبية في 6 فبراير 2013، ومحمد البراهمي المنسق العام لحزب التيار الشعبي في 25 يوليو 2013). ولقد أنعم إسلاميّو التطرف بسلسلة اغتيالات أقل صدى شملت لطفي القلال وفوزي المحمدي، والاثنان دعاة لم يعجبا دعاة غيرهم، فسقطا في المسافة بين إسلام وإسلام.

وأصابع الاتهام لم تخطئ وجهة الإشارات. ولا أصابع الأدلة التي ربطت بين الجريمة و”نظرية الاعتدال”. تلك النظرية التي تحولت هي ذاتها نوعا من مؤامرة، ضد الإسلام وضد تونس وضد كل من يجرؤ على الاعتراض.

ليست هذه تونس، يكاد يجمع الكثير من التونسيين الذين لم يعرفوا من بلادهم إلا صورتها الأخرى. ولكن الإسلام السياسي نجح إلى حد بعيد في أن يفرض صورته وأجندته وحلوله. وما يزال يحتل مكان الصدارة من خلف الستائر لتحريك بعض الدمى وبعض الخيارات.

لم يتخلَّ حزب النهضة عن دائرة النفوذ لأنه نجح في شيء، ولكن لكي يقدمها كعربون انحناء، حيال عاصفة الرفض التي واجهتها امتداداته الأيديولوجية المتطرفة التي انبثقت من البيئة الظلامية المشتركة. تلك البيئة التي قصدت أن تحول تونس إلى بلد منتج ومصدّر للإرهابيين والإرهابيات.

الافتراض القائل إن تونس نجحت في طي صفحة الإرهاب، ثبت أنه متفائل للغاية
الافتراض القائل إن تونس نجحت في طي صفحة الإرهاب، ثبت أنه متفائل للغاية

في أكتوبر تشرين الأول الماضي فجرت امرأة نفسها في وسط العاصمة مما أدى إلى إصابة 15 شخصا بينهم عشرة من رجال الشرطة، لكي تنهي الاعتقاد بأن تونس شيء مختلف. المفهوم كان قد تداعى قبل ذلك بمقتل عشرات الضحايا في هجمات عام 2015.

هذه العمليات قالت إن “المادة الشخمة” لم تعد شخمة، وإن تونس لا تختلف في شيء عن أي أحد تلوثت أطرافه بمادة الثقافة المنحطة. وقدمت في الوقت نفسه ما يكفي من الدلائل على أن نهوض التطرف جارح جدا، ومكلف جدا، حتى كادت البلاد تعلن إفلاسها، بانقطاع عائداتها من السياحة التي تشكل نحو ربع إجمالي الناتج المحلي.

لا شيء يبرر الاتهام المباشر. ولكن المرء لا يصنع بيئة، ثقافية ودعوية، ثم يعود ليتبرأ من عواقبها المتطرفة، بزعم أنه هو نفسه “معتدل”.

هذا شيء يشبه الافتراض بأن دعم بريطانيا، إبان استعمارها لمصر، لتنظيم الإخوان المسلمين، كان عملا من أعمال حسن النية.

تونس عادت بالعمليتين الانتحاريتين الجديدتين لتذوق طعم المرارة ذاتها. وإذ كانت تفاخر باختلافها، فقد صارت تدافع عن نفسها وتتوسل البراهين على أنها شيء مختلف. وهذا، بحد ذاته، جارح.

لقد أوقعت بيئة الإسلام السياسي تونس على ركبتيها، وقعدة الفوضى التي تقودها النهضة ما تزال قعدة.

8