النظام المصري يجدد شرعيته بإعادة رسم الجغرافيا السكانية

ضاعف النظام المصري جهوده التنموية في أماكن مختلفة، تمددت شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، لإعادة رسم خارطة الجغرافيا السكانية والخروج من الوادي الضيق إلى تنمية الصحارى الشاسعة التي تعد بؤرة رخوة في عدة محافظات كادت تتحول إلى ملاذ للجماعات المتطرفة. وهذه الاستراتيجية تأتي لتجاوز العراقيل الأمنية والاجتماعية التي تشكل تهديدا للأمن القومي المصري.
القاهرة – وجهت السلطات المصرية أنظارها خلال الفترة الماضية إلى المناطق الريفية، التي قد تشكل خطرا على الأمن القومي المصري، في مسعى منها إلى تجديد شرعيتها أمام المواطنين.
وتركزت غالبية المشاريع العمرانية على مناطق جديدة، حيث توجد الآن 14 مدينة في طور الإنشاء، وبدأت عملية توطين المواطنين فيها، خاصة العاصمة الإدارية في شرق القاهرة. لكن ذلك يواجه انتقادات جراء إهمال الكتل السكانية في القرى التي تدهورت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.
وأطلق الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل أيام مشروعاً قوميا لتطوير الريف الذي يقطنه 58 مليون نسمة، يمثلون 60 في المئة من تعداد السكان داخل 4700 قرية، وتشمل مرحلته الأولى تطوير البنية التحتية في 1500 قرية واقعة ضمن 50 مدينة في 22 محافظة، وتقدر تكلفته بنحو 33 مليار دولار.
وأدركت الحكومة أن رغبتها في تشجيع المواطنين على الذهاب إلى المناطق الجديدة يصعب تحقيقها، طالما أن خطواتها لا تلقى قبولاً لدى عدة فئات ترى أنها متضررة من المشاريع العملاقة، مع زيادة معدلات الفقر التي تخطت نسبة 70 في المئة في عدة قرى صغيرة لا تتوفر فيها مقومات الحياة الطبيعية، ما دفع الحكومة إلى تكثيف المبادرات الاجتماعية.
ويبدو أن اعتماد الحكومات المتعاقبة على الجمعيات الأهلية لتوفير الكثير من حاجيات هذه المناطق لم يعد أمراً ذا جدوى كبيرة حاليا، إذ عزفت الجمعيات عن العمل في ظل تضييق الخناق على المجتمع المدني بوجه عام في السنوات الماضية، ووجدت الحكومة الحالية أن هناك حاجة ماسة إلى التعامل مباشرة مع المناطق التي تشكل بيئة رخوة تمثل تهديداً للأمن القومي.
تغيير الريف
قال أستاذ العلوم السياسية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، حسن سلامة، إن “التوجه نحو الريف يحقق للنظام جملة من المكاسب، فهو يعزز شرعيته السياسية، حال نجح في أن يلمس التطوير حياة المواطنين بشكل مباشر بعد أن تضررت فئات عديدة من الاهتمام المتزايد بالمشروعات القومية طويلة المدى دون أن ينعكس ذلك بصورة إيجابية عليها”.
وأوضح لـ”العرب” أن “تغيير وجه الحياة في الريف يساعد على خلق مجتمع عمراني كبير، والخروج من الشريط الضيق حول نهر النيل، إلى أماكن أكثر اتساعاً تتوفر فيها معايير جودة الحياة؛ فانكفاء المجتمع على نفسه بالتزامن مع زيادة معدلات الأمية والجهل في تلك المناطق يمثل أزمة، ولذلك تشهد مناطق الظهير الصحراوي للمدن صحوة، ويجري استغلالها بطريقة جيدة، وفي الوقت ذاته يسعى النظام الحاكم إلى إشعار المواطنين بأنه يؤدي دوره تجاه هذه الفئات”.
وهذه هي المرة الأولى التي يقرر فيها النظام منذ زمن بعيد الخروج على نطاق واسع من وادي نهر النيل الذي كان يتكدس حوله السكان عبر قرون طويلة.
ويرى سلامة أن الحكومات كانت لديها أزمة حقيقية في كيفية تحويل الظهير الصحراوي للمدن إلى مناطق عازلة تستطيع أن تحمي نفسها في ظل استغلالها من قبل عناصر إجرامية وإرهابية، والاتجاه نحو توسيع البناء العمراني في تلك المناطق دون أن توازيه قواعد اقتصادية وصناعية ويواكبه ارتباط بالريف لن يؤدي إلى تحقيق الأبعاد الأمنية وراء الاستثمارات الضخمة في مجال التنمية العمرانية.
وأكدت وزارة التنمية المحلية أن تطوير القرى يستهدف تأهيل وتدريب المواطنين على المشاركة الشعبية في كل مراحل تخطيط وإدارة وتشغيل المشروعات والخدمات، إلى جانب تحسين البنية الأساسية ومستوى الدخول عن طريق زيادة الإنتاج وإيجاد فرص عمل كثيرة.
وتستهدف السلطات من خلال هذا التوجه إعادة صياغة الجغرافيا السياسية للدولة التي تتعامل مع الملايين من القاطنين في القرى على أنهم يمثلون ظهيرها السياسي، ويشكل هؤلاء ركائز قوية في الدولة العميقة التي تساعد على تماسك المؤسسات الرسمية عبر الحصول على دعم العمد والشيوخ والدوائر الأخرى القريبة من النظام، وهم أكثر حضوراً في الانتخابات التي تدعم شرعيته.
كما أن وجود فجوات عديدة في تلك المناطق جعل النظام غير قادر على إجراء الانتخابات المحلية المؤجلة منذ عام 2008، خوفاً من وصول شخصيات تمثل خلايا إخوانية نائمة في تلك المناطق التي ينتشر فيها الخطاب الديني المتشدد، وهو أمر انعكس على تردد الحكومة في إعادة التقسيم الإداري للمحافظات في ظل مخاوف من عدم قدرة الإدارات المحلية على تأمين التمددات العمرانية الجديدة.
خارطة جديدة
تنطوي إعادة رسم خارطة الجغرافيا السكانية على مدخل مهم يمكّن النظام من استقطاب المزيد من الموالاة في المناطق النائية، ويخرجه من دائرة الاهتمام بطبقة اجتماعية مرفهة فقط، ويوسع نفوذه في المناطق النائية، بل يقطع الطريق على من يحاولون اصطياده من هذه المناطق الرخوة التي يسهل توظيفها سياسيا.
ويذهب البعض إلى التأكيد على أن خروج مظاهرات غاضبة ضد قرارات إزالة البنايات المخالفة في سبتمبر الماضي، واستجابة البعض لدعوات المقاول الهارب محمد علي، في ذلك الحين، كانا جرس إنذار للنظام ينبه إلى ضرورة التدخل العاجل كي لا تكون هناك اختراقات من قبل قوى معارضة في مناطق ظلت داعمة له ولم تعتد الخروج ضده.
وتيقنت الأجهزة الأمنية من أن صعوبة الأوضاع المعيشية في تلك المناطق تشكل عائقاً أمام خطط الخروج من الحيز العمراني الضيق، وتعرقل أي توجهات مستقبلية يبدو فيها النظام أكثر اهتماماً بتنمية المجتمعات الصناعية الحديثة على حساب تراجع المجتمعات الزراعية، التي لم تواكب التطورات الحديثة، وكانت سبباً في هجرة مواطني الريف إلى مناطق عشوائية تشكل بيئة خصبة للجريمة بمختلف أنواعها.
وذكرت تقارير حكومية أن تطوير القرى سيبدأ من المناطق الجغرافية الجنوبية والغربية ضمن المرحلة الأولى، ويرجع ذلك إلى أسباب مختلفة، إذ أنها أكثر المناطق التي تعاني تهميشاً وغياباً للخدمات، إلى جانب الأهمية الجغرافية لتلك المناطق التي تتقاطع مع تطورات إقليمية على الحدود المصرية مع ليبيا غرباً والتي شهدت طفرة عمرانية واسعة.
وينطبق ذلك على غزة وإسرائيل شرقا، حيث تشهد سيناء تحولات كبيرة في بنيتها السكانية، وكذلك جنوباً حيث أزمة مياه النيل وعدم وجود حل لأزمة سد النهضة الإثيوبي، ناهيك عن أزمة حلايب وشلاتين الكامنة مع السودان، والتي تستوجب تكثيفا عمرانيا لإقرار الأمر الواقع لصالح مصر.
وتعول القاهرة على أن تكون الجغرافيا السياسية حاسمة في التعامل مع هذه الأوضاع، وهو ما يتطلب تغييراً موازياً على مستوى المشاريع في مناطق الظهير الصحراوي الشاسعة بجانب تغيير شكل التركيبة السكانية وخلق مجتمعات موالية للدولة، وعدم السماح بتكرار محاولات استقطاب المواطنين للتغطية على تحركات عناصر معادية في الأطراف.
كوابح أمنية واجتماعية
أوضح الخبير الأمني اللواء أشرف أمين أن الحكومة تواجه صعوبات أمنية في التعامل مع المناطق الريفية القريبة من الظهير الصحراوي والتي تتمدد إلى حدودها المختلفة، بسبب غياب المعلومات المتوفرة عن خلفيات الملايين من المواطنين، وأن غياب الحكومة عن تلك المناطق لسنوات جعلها غير قادرة على اختراقها بصورة سلمية لقطع حبال الدعم بين الإرهابيين على الحدود والداعمين لهم داخل الحيز العمراني.
وقال لـ”العرب”، إن “قرى محافظة الفيوم (جنوب غرب الجيزة) التي كانت معقلاً للجماعات المتطرفة تعبر عن تلك الأزمة، فهذه المحافظة لديها ظهير صحراوي وحضاري وزراعي في حين أن أطرافها بعيدة عن أعين الأجهزة الأمنية، والتعامل مع المجرمين في تلك المناطق كان صعباً للغاية لعدم وجود طرق ممهدة يمكن أن تتحرك فيها قوات الأمن بحرية كبيرة”.
وأشار إلى أن الخلايا التابعة لتنظيم الإخوان تستغل صعوبة الأوضاع في تلك المناطق لتقديم خطابات استعطاف للمواطنين الذين قد ينجذبون إليها بفعل غياب وزارة الأوقاف في الزوايا والمساجد الصغيرة التي تُستخدم كأداة للحشد السياسي في تلك المناطق، وحال استمرت على أوضاعها الحالية سيكون من الصعب الحديث عن ثورة تنموية حقيقية.
وتواجه التحركات نحو الريف باعتراضات، عبر عنها خبراء التخطيط العمراني، حيث يرون أنها إذا لم ترتكز على الربط بين الريف والمدن الجديدة ستعمل على تثبيت الكثافات القائمة والمتزايدة في الريف على حساب خطط الخروج من الوادي الضيق، ومطلوب توجيه الفائض الهائل من العمالة المعطلة في القرى إلى نطاقات أخرى جديدة خارج المسطح الأخضر في الوادي والدلتا.
ويؤكد أستاذ التخطيط العمراني بجامعة القاهرة، سامح العلايلي، أن الريف يعانى من تزايد مضطرد في كثافة سكانه وعمرانه بدرجه تزيد كثيرا عن طاقته الاستيعابية الزراعية، وتلك الزيادة تتعارض مع حاجة القطاع الزراعي إلى عمالة فنية متخصصة بعد تطور تقنيات الأنشطة التي تعتمد على أعداد متناقصة من العمالة.
وشدد في تصريح لـ”العرب”، على أن “الحكومة عليها إعداد سياسة بعيدة المدى لفتح آفاق جديدة لإقامة ألوية عمرانية إنتاجية مختلفة الأحجام والتخصصات تنمو عنقوديا خارج الوادي والدلتا، بالتوازي مع تشجيع وتحفيز سكان الريف على الانتقال إليها بعد تأهيلهم في إطار شراكات في ما بينهم للعمل والاستقرار الآمن، ودون تحميلهم ما لا طاقة لهم به، بل مساعدتهم ماديا وفنيا حتى تستقر أوضاعهم”.