النحات الأردني كرام النمري يلاحق حركة الجسد

فنان يستلهم من التراث رموزه ودلالاته ويلاعب الفراغ والظلال.
الثلاثاء 2022/08/16
الاستفادة من التراث

يتجه أغلب دارسي الفنون التشكيلية في العالم العربي إلى اللوحات والرسم، بينما قليلون هم من يتوجهون إلى عالم النحت، العالم الذي ما زال يواجه مغالطات كثيرة خاصة بفعل التصورات الدينية القديمة التي تحرّمه، بينما ساهم نحاتون عرب كثيرون في الحد من هذه التصورات بأعمال مؤثرة استفادت من التراث وانفتحت على آفاق جديدة. ومن هؤلاء النحات الأردني كرام النمري.

طلال المعمري

عمان - على مدار ما يزيد على خمسة عقود، ظل التشكيلي الأردني كرام النمري وفيا لفن النحت الذي قدم فيه إسهامات مميزة، سواء على صعيد المواد الأولية المبتكرة أو على صعيد الشكل والموضوع واستلهام التراث بكل ما ينطوي عليه من رموز ودلالات، وليس هذا بغريب على فنان ولد في بلدة متشبعة بالتراث، هي “الحصن” شمال الأردن، وكان ذلك في عام 1944.

بدأ النمري تجربته في النحت على حجر “الحثان”، ومنه شكل بالسكين وما يتوفر في المطبخ من أدوات بسيطة منحوتته الأولى التي حملت عنوان “مسافرة وساجدة”. وبعد حصوله على شهادة الثانوية التحق بكلية الفنون في دمشق متجاوزا رغبة عائلته في أن يدرس الطب أو الهندسة.

التأثر والتجريب

منحوتات كرام النمري تستلهم الأجساد لتعبر عن إنسان العصر المقيد بالتعقيدات الداخلية التي تجعله يتقوقع على ذاته

بعد تخرجه اتخذ النمري من الجسم البشري مرتكزا له لإنجاز أشكال ثلاثية الأبعاد، وكانت في غالبيتها تناقش قضايا اجتماعية وسياسية. وبدأ في تلك المرحلة أيضا في الاطلاع على مدارس النحت العالمية ودراسة ما تركته الحضارات القديمة كالفرعونية والآشورية والبابلية من نصب ومنحوتات، وخلص من ذلك إلى أن الطبيعة هي مصدر الإلهام الأول للفنان.

تأثر النمري بأسلوب النحات الإنجليزي هنري مور، أحد أبرز فناني القرن العشرين، ومنه استمد بعض التقنيات الفنية في النحت، كما تأثر بالياباني ناجوجي والفرنسي أوغست رودان وغيرهما.

وبدأ النمري في التعلق بفن الحفر على الخشب، وتعلم تقنياته على يد النحات السوري سعيد مخلوف، وأنتج في تلك الفترة أعمالا عبر الحفر على شجرة “الكينا” بأدوات استقاها من أصحاب المهن التراثية ومن خبرتهم في التعامل مع أخشاب الأشجار على تنوعها.

وفي مطلع السبعينات بدأ الفنان مشروع تخرجه في الجامعة، الذي قدم فيه منحوتات تحتفي بذكرى شهداء معركة الكرامة، وفيه اشتغل على الأشكال برؤية توازن بين الكتلة والفراغ، والاعتماد على تكوينات نحتية ذات دلالة وقيمة تعبيرية تعتمد على العلاقة بين الكتلة والفراغ، معبرا عن أبعاد إنسانية عميقة ظهرت عبر تعويله على التنويع بين الكتل الكبيرة والأشكال التي تخطو إلى الأمام باندفاع، حيث يظهر ذلك ثورتها ورغبتها في التحرر.

وفي منتصف السبعينات، ساهم النمري مع الفنان الأردني الراحل مهنا الدرة في تأسيس معهد الموسيقى والفنون الجميلة التابع لوزارة الثقافة الأردنية، وعمل فترة قصيرة مدرسا فيه، ثم سافر إلى إيطاليا لدراسة الرسم، وهناك رأى إنجازات فناني عصر النهضة، وعكف على دراسة أحجار الرخام والأدوات المناسبة للحفر على تلك الأحجار، وهي التقنية التي استفاد منها في الحفر على خشب الزيتون الذي يتميز بالقساوة.

الفنان قدم أعمالا تعبر عن حركة الجسد التعبيرية وأشكالا تعتمد على علاقات واضحة بين الكتل والفراغات

وتمخضت هذه التجربة عن المنحوتات التي عرضها النمري في عام 1979 بالمركز الثقافي البريطاني في عَمان، وألقى من خلالها الضوء على جسد المرأة من حيث التكوين الناعم والرشيق، كما قدم منحوتات تعبر عن إنسان العصر المقيد بالتعقيدات الداخلية التي تجعله يتقوقع على ذاته، ويظهر ذلك من خلال الرأس الصغير بالنسبة إلى حجم الجسم، واعتماد السطوح المقعرة والمحدبة التي تخلق مناطق من النور والظل تم تحديدها عبر خطوط ملتوية تتداخل وتتشابك وتدور في دوامات متتالية.

انتقل النمري مطلع الثمانينات إلى الولايات المتحدة لنيل شهادة الماجستير في النحت من جامعة ساوث كارولينا، وهناك اشتغل مع النحات الأميركي وودي هوارد وتعرف على تقنياته في إنجاز أعمال متطايرة في الفضاء، تعتمد على ورق السلوفان الملون والمملوء بغاز الهيليوم الخفيف، ومن هذه التجربة بدأ النمري يعيد التفكير في الكتلة بأعماله، مع حفاظه على الإيحاء المستمد من الشكل الإنساني، وأخذ في تجريب أعمال لا تعتمد على الارتباط بقاعدة ثابتة، إلا في نقاط محدودة، ليصبح الشكل لديه فراغيا أكثر وخطيا ويرتفع بشكل عمودي.

وفي تلك المرحلة أيضا بدأ اشتغال الفنان على الأخشاب الأميركية، كالبلوط والكرز، تلك التي تخلو أليافها من العقَد والتعرجات وتميل إلى الانتظام الطولي. وظهرت آثار هذه التجربة في المعرض الذي أقامه النمري في عام 1984 في المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة بعمان.

عودة إلى التراث

الجسم البشري مرتكز الفنان
الجسم البشري مرتكز الفنان

علاوة على رحلاته التجريبية عاد النمري إلى التراث العربي الذي يعشقه، فأنجز تمثالا كبيرا لصلاح الدين الأيوبي ينتصب أمام مدخل قلعة الكرك الأردنية، وأنجز أيضا منحوتته الكبيرة “صرح المخطوطات” المعروضة بالقرب من الجامعة الأردنية، وتتكون من سبعة مخطوطات، نقش على ستة منها آيات من القرآن الكريم، تصطف بتنسيق تأتي فيها كل آية بعد الآية الأخرى من حيث وقت النزول، أما المخطوطة السابعة فتلتف على باقي المخطوطات ولها محور يتجه نحو السماء.

وفي مطلع التسعينات حصل الفنان على درجة الدكتوراه في مقارنة الفنون من جامعة أوهايو بالولايات المتحدة، وفي تلك المرحلة عكف على دراسة العلاقات بين الفنون البصرية والموسيقية والمعمارية والدرامية وتطورها عبر العصور، وهو ما دفعه بعد ذلك إلى تقديم منحوتات تمازج بين مختلف أشكال الفنون، ومنها “القدس عروس عروبتكم” التي أنجزها في عام 1997، و”الفراغ الداخلي” في عام 1995.

وفي مطلع الألفية الثالثة، واصل النمري سكب تجاربه الفنية الممتدة وتطوير عمله بناء عليها، وقدم أعمالا تعبر عن حركة الجسد التعبيرية كما في المسرح، وأشكالا تعتمد على علاقات واضحة بين الكتل والفراغات، وتستفيد من طريقة النسب والتوزيع والتكرار الموجودة في الفن الموسيقي، مع الاهتمام باستيحاء التراث والحضارات الإنسانية، وقدم في ذلك أعمالا منها: “ميشع ملك المؤابيين”، و”الثأر”، و”الرياح الغربية”.

15