الناقد السعودي عبدالله الغذامي: على المثقف ألّا يكون مثقفا

الناقد السعودي يرى أن محاكمة المبدعين أخلاقيا من خلال نصوصهم الإبداعية يعني الاستقالة من المعرفة.
الجمعة 2021/02/05
مشروع الغذامي مشروع تحديث

الرياض - يقول الناقد السعودي عبدالله الغذامي "أخطر ما في المعرفة أنّ طبيعتها زئبقية. وكلما أحسست أنك أمسكت بها انفلتت. فإذا أدركنا المعرفة فهذا يعني النهاية. ما دمنا نسير باستمرار وراء المعرفة ولا نتقدم عليها، بل حتى لا نرافقها، فهذا يعني أننا نتقدم".

وأضاف الغذامي الذي رفد المكتبة العربية النقدية بالعديد من الكتب المهمة في مجال النظريات النقدية وتطبيقها، وهو صاحب مشروع النقد الثقافي وآخر عن المرأة واللغة، "المعرفة أكبر من أن يحيط بها بشري واحد. ولو استعرضنا الفلسفة من سقراط حتى الآن سنجد أن أسماء الفلاسفة لا تزال حية في الجامعات، رغم مرور قرون من الزمن على ظهورهم. وهي حية لأنها لم تكتمل، فالمعرفة المكتملة تنتهي باكتمالها مثل اكتمال العمر أو مثل اكتمال البناء. أما البناء الذهني والمعرفي فهو متمرد على الاكتمال، ولهذا السبب يشاغب الذهن البشري ذاته باستمرار".          

الناقد منقود

وأضاف الغذامي في أمسية افتراضية قدم خلالها طروحاته في النقد الثقافي والحداثة، "قلت مقولة أساسية أصدقها على نفسي وأصادقها بنفسي، وهي أن الناقد لا يبلغ هذه الدرجة من المسمى إلا إذا كان منقودا، وإلا تحول إلى سلطة معنوية تعتقد أن باستطاعتها تدمير من تريد من الشعراء.

لكن إذا كان مستمرا في مشاغبة تجاربه فحينئذ لا بد من أن يُشاغَبَ المشاغب. مثلا لاعب كرة القدم المشاكس في الملعب نرى أنه دائما يجد من يشاكسه، ولكي يتحرك في الملعب لا بد من المشاكسة، والفكر البشري هكذا. ما دمنا نتحرك باتجاه أن الناقد منقود فسيظل هذا الناقد في حيوية، لأن ناقديه يشاغبون هذا الفكر عنده فيتحمس لبناء فكري جديد محصن بالمعرفة وليس بالقوة التي هي سلطة الناقد المعنوية".

قلق معرفي

ويقول الغذامي عن بواعث القلق المعرفي والتغيرات في تجربته الممتدّة على عقود من الزمن
"عندما يقول السياب:
أصيح بالخليج: يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى
فيرجعُ الصّدى
كأنه النشيجْ: يا خليج يا واهب المحار والردى.
فإنه هنا يصف تجربة كل غواص غاص في البحر وهي تشبه التجربة العلمية إذا كانت على مستوى الغوص، حيث من الممكن أن تغوص بحثا عن المعرفة لكنك قد تعود بالمحار والردى.

 في هذه التجربة التي يصفها السياب هو يصف تجربة الباحث القلق الذي يدخل وهو يسائل نفسه والتوق الذي كان عنده. ولما تدخل وتجرب في مجال النقد الأدبي الموجود في الصورة معرفيا منذ قرون ونما بنظريات وتجارب عديدة، لكنه ظل يطرح سؤال الجمال والإبداع منذ أرسطو أول من نظّر للنظرية النقدية في كتابه فن الشعر، الذي نقله أسلافنا واستمر في العصر الحديث واستمرت النظرية.

الإشكالية كانت في الاستمرار، وهذا ما وجدته عند نفسي وهو ما حدث بالضبط عام 1987 حيث دعا اتحاد الأدباء العرب إلى ندوة في أبوظبي تحت عنوان 'الشعر في الخليج العربي' وكنت قلقا من المشاركة ولم يكن من الصحيح الاعتذار، وكان قد مرت سنتان على صدور كتابي 'الخطيئة والتكفير'. ورغبة في تقديم مادة حية فكرت أن أحتال على الموضوع وأنظر في تجربة شاعر كبير، واخترت 'حسين سرحان' من الجيل الأول المبكر في المملكة، وغازي القصيبي في الوسط ومحمد جبر الحربي وأخذت لكل واحد منهم قصيدة واحدة في الغزل، وصرت أقارن بين الخطابات الثلاثة التي تمثل أجيالا وتنوعات، فحسين سرحان عاش عمره كله في مكة لم يغادرها قط بينما غازي القصيبي طاف العالم ومحمد الحربي ينتمي إلى الحداثة، بمعنى تتوفر ثلاثة عصور أدبية وثقافية بأذواق مختلفة نوعيا، واستخرجت نماذج المرأة في القصائد الثلاث فوجدت ثلاثة نماذج للمرأة متغيرة ومتحولة، وهذا ما أدخلني أول ما أدخلني على النقد الثقافي وأن للنقد الأدبي وجها آخر غير ما هو جمالي.

لاحقا استعضت عن النماذج بالأنساق، كما انفتح عليّ موضوع المرأة واللغة، لتخرج خمسة كتب عنها لاحقا ثم نضجت الفكرة باتجاه النقد الثقافي فصرت أعمل على الأنساق وليس على النصوص. وبما أنها نصوص، فإنه تنضوي تحتها أنساق وأشياء خفية. لذلك محمود درويش باعتباره واحدا من الاستثناءات في الشعرية قال ذات مرة 'إن كان لا بد من التقليد، فقلّد غيرك لا تقلّد نفسك' وليس مهما أن ننشغل بسلبية فكرة تقليد الغير، فالمعنى هنا لا تكرر نفسك. لذا لا يكرر محمود درويش نفسه في كل قصيدة بل يتعب باستمرار للبحث عن نص مختلف. حتى أواخر عمره - رحمه الله - كان يعمل على قصيدة طويلة جدا لا تكون شعرا، بل نثرا فيه كل ما في الشعر وفيه أرقى درجات النثر. حتى إنني قبيل وفاته كتبت عنه دراسة أعجبته وشكرني عليها، قلت فيها إن درويش ناثر وليس شاعرا ثم شرحتها لاحقا، فما عنده أكثر من مجرد قصيدة حتى تقول عنه شاعرا وهو الخطاب الذي فوق كل شيء.

وهنا أشير إلى جملة ذكية جدا لطه حسين، الرجل الأعجوبة، عندما طرح رأيه في بلاغة القرآن وقال إن القرآن ليس شعرا وليس نثرا بل إن القرآن قرآن بمعنى خطاب قائم بذاته. وبالتالي ليس بالضرورة أن يكون الشيء شبيها لواحد من شيئين آخرين محددين، فمن الطبيعي أن يكون نموذجا قائما بذاته ولا يشبه غيره. الرئيس الأميركي (ترمب) مثلا سيصبح أسطورة في الأجيال القادمة لأنه شيء مختلف عن كل شيء آخر، ولم يدخل للبيت الأبيض رئيس مثله من قبل، ولا أظن أن رئيسا مثله سيأتي من بعد. لذلك نحن نستمر في البحث عن اللؤلؤة، وأحيانا لا نجد إلا محارا، نموذجا للا نموذج. هذه المسائل تجعل النقد الثقافي ضروريا، في حين أن النقد الأدبي لا يكتشف هذه الأمور. وهذا ما وجدته بنفسي عام 1987 عندما قررت أن أكتب بطريقة مختلفة عن الشعر في الخليج، مختلفة عما أكتبه أنا أو يكتبه غيري، وأجرب هذه الطريقة ثم ظل عندي هذا الحس باستمرار".

غوص في النص

وفي مداخلة للناقد والأكاديمي العراقي سعد التميمي، أشار إلى أن مشروع الغذامي في النقد الثقافي يعد ريادة في المنطقة العربية، ومن بعد ذلك جاءت الكثير من الدراسات، وأضاف: قد يكون الإشكال الوحيد لهذا المشروع هو إلغاؤه التام للآخر، وأعني هنا النقد الأدبي رغم الجانب الجمالي للنص الأدبي. لكن مشروع الغذامي ظل يهدف إلى الغوص في النص للتحول من الخطاب الأدبي إلى الخطاب العام لذلك جاءت التحولات الكثيرة في كتبه لاحقا. وهنا أسأل الدكتور الغذامي هل كانت هذه التحولات تجريبا دائما أم أن من طبيعة الدكتور أنه لا يستقر على منهج معين كجزء من حركية الفكر النقدي عنده؟
أجاب الدكتور الغذامي قائلا "مسألة الاستقرار متعبة في تكوين الذاتي. تجربة عام 1987 كانت مهمة من حيث أظل مستقرا كما يتوقع الآخرون، خصوصا أن كتابي 'الخطيئة والتكفير' كان ما زال حاضرا في الساحة وفكرة البنيوية ما زالت طازجة حينها. وكانوا يتوقعون أن أظل في البنيوية وهذا ما لم أشأه لنفسي. بالإضافة إلى رغبتي في ألا أظل ثابتا فيما يتوقعه الغير مني. مثلا الجمهور في الأمسية الشعرية عندما يصفق لمفردة توصّل إليها قبل أن ينهي الشاعر البيت، فهو يصفق لنفسه ظنا منه أنه وجدها قبل الشاعر. بينما الشاعر الإنجليزي الذي سُئل عن الشعر أجاب أنه كالصقر لا يعرف صيده إلا حين يراه، بمعنى أنه لا يستطيع تعريف الشعر الذي إن عرّفته لن يعود شعرا، ويبقى هو الدهشة التي لا تُعرّف.

المعرفة هكذا أيضا بمعنى أنها إشراقية، كلما بحثنا عن إشراقاتها سنصطاد بعضها ويظل التوق للمزيد. وتعقيبا على سؤال سعد، أنا فعلا أقول إن النقد الأدبي مات، بمعنى أنه أدى الوظيفة وبمعنى التشبع، مثلما أن البلاغة العربية القديمة أدت الوظيفة، لكن لا أقول إن على الناس ألا ينقدوا نقدا أدبيا، فهذا لا يصح أصلا وعمليا غير ممكن.

 كما أنني لست ضد من يجمع بين النقد الأدبي والثقافي ويبحث عن الجماليات كما يبحث عن النسقيات، لكن منهجيتي أنا غير ذلك، فإذا اهتممت بالجماليات في النص فحتما سأنشغل عن النسقيات التي كثيرا ما تُهمل. لم يكن يطرأ على بال أحد، ولا حتى أنا، أن نزار قباني نسقي وأن أدونيس نسقي. ولم أكن أجرؤ أن أقول مثل هذا الكلام حتى دخلت في النقد الثقافي لأن النقد الأدبي لا يكشف نسقية كل منهما، رغم أنني ما زلت معجبا بشعرهما وأحفظ لنزار الكثير من شعره وأتذوقه وأطرب له. الجمالية في النص الأدبي بالنسبة لي هي الغطاء الذي يغطي النسق ويمرره، فلا بد أن أكشف الغطاء لكي أرى النسق. وهكذا بعد كل كتاب أنهيه، يتبادر تساؤل خطير في ذهني 'هل انتهيت؟ هل سأصدر كتابا بعد ذلك؟' ثم يبدأ الانشغال ومثل الشاعر الإنجليزي؛ إذا رأيت صيدي عرفته. بعدها أعطي الفكرة حقها من الخدمة والتأسيس النظري والفلسفي والمعرفي وبالإجراء التطبيقي، مع إبقاء المجال مفتوحا للمزيد من الاجتهادات والانفتاحات.

حينئذ نقدم دراسة وليس مشروعا. خذ تجربة شوقي ضيف - رحمه الله - مثلا فبرغم احترامي له ولكتبه لكن لا مقارنة بينه وبين طه حسين الأستاذ، وبين شوقي ضيف التلميذ. طه حسين قلق، حتى تحوله من كتاب الشعر الجاهلي إلى كتاب الأدب الجاهلي هو تحول نوعي ضخم، والذين يقولون إنه تحول بسبب ضغط الأزهر لا يعرفون حياة طه حسين، وأنه قلق بطبيعته ويتغير ولا يتردد في أخذ خطوة التغير عندما يرى ذلك صوابا. بينما شوقي ضيف بقي نمطيا في أبحاثه الأدبية، وهو يخدم قراءه بلا شك، لكنه لا يخدم قراء طه حسين. الجاحظ كذلك علامة بارزة في التحولات في تراثنا العربي. هذا يعني أنك أمام ملحمة، لذا قد تتنوع وتتشكل حتى ينبني هرمك المعرفي".

العروبة نسق ثقافي

وفي سؤال عن الجذور العروبية للغذامي وتحوله من شاعر يتقد عروبة وحماسة إلى ناقد، وبعد اتضاح مشروعه الثقافي، هل أصبح من الممكن محاكمة العروبة باعتبارها نسقا ثقافيا مضمرا، أجاب الغذامي "العروبة نسق ثقافي ولكن غير مضمر. ذلك لم يسمح تسارع الأحداث في الساحة العربية من عام 1956 إلى عام 1973 والأجواء المفعمة بمشاعر الوحدة العربية، لنسق العروبة أن يكون مضمرا، بل كان واضحا على امتداد المسافة الزمنية في الكثير من النصوص الأدبية، مثل نصوص سليمان العيسى. بعد ذلك أصبحت العروبة أيديولوجيا سياسية، وتبعا لذلك أصبحت قامعة كما حدث في الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت باسم العروبة. ثم ظهرت في ما بعد مشكلة الأقليات في العالم العربي والتي كانت وطنية ولكنها قمعت باسم القومية العربية، وبالتالي شوهت القومية العربية. ثم أصبح المعنى الذي تربينا عليه صغارا يتفتت ويتهشم أمامنا حتى ظهر مفهوم الدولة الوطنية كبديل لمفهوم الدولة القطرية في الأدبيات القومية، وإنه كلما اعتنت الدولة الوطنية بتكوينها فإنها ستنتهي إلى القوة التي ستنتهي أخيرا إلى قوة عربية. خروج بريطانيا مثلا من الاتحاد الأوروبي الآن يهدد هذا الاتحاد الذي كانت قوته بوجود ألمانيا مع فرنسا مع بريطانيا والبقية تبع. العروبة بمعناها السياسي والأيديولوجي لم تعد قائمة، لكنها ما زالت حاضرة في نفوس العرب وفي ثقافتهم مثلها مثل المروءة التي تنتفض عند كل محفز".

المثقفون في كارثة

وعما هو مطلوب من المثقف العربي خصوصا في ظل مقولة الغذامي السابقة بأن المثقفين في كارثة ومطالبته بإنهاء دور المثقف الجبان، يجيب قائلا "المطلوب من المثقف ألا يكون مثقفا. بمعنى ألا يضع هذا الوصف شرطا لتواصله مع العالم ولتواصله مع نفسه، أو شرطا لتواصل العالم معه، وهنا الخطورة. الشاعر قد يُقبل منه خطاب الـ'أنا' والغرور لأن هذه هي طبيعة الشعر، لكن كيف يزعم المثقف أنه مصلح ومفكر ويخدم الآخرين وهو يتبنى خطاب الـ'أنا'؟ حتما سيخدم نفسه. وسيتحول فكره إلى قصائد ويدافع عنها كما يدافع الشاعر عن قصائده، وبالتالي لن يستطيع الانفصال عن فكره كما في حالة الشاعر الذي لا يمكن أن ينفصل عن شعره.

 لذلك على المثقف أن ينهي فكرة كونه مثقفا وينشغل بالفعل الجاد. مفردة المثقف ابتذلت بشكل غير مسبوق، ومثلها مفردة مفكر التي أصبحت تطلق على كل من لا يمكن تصنيفه ضمن الشعراء أو الروائيين أو الكتّاب. وأنا أسمي المفكر حمار الثقافة كما أن الرجز في البحور الشعرية يسمى حمار الشعر. المثقف لكي يكون مثقفا، بالمعنى الذي طرحه غرامشي عن المثقف العضوي وغيره من الكلام الجميل، عليه أن يكون مفكرا بالمعنى الفلسفي وبمعنى الموقف وبمعنى الإنتاج المعرفي. الصفات خطيرة، فعندما يوصف حاتم بالكرم سيكون من الكارثي عليه أن يبخل ولو لمرة واحدة لأنها قد تهدم كل شيء".

وفي رأيه حول المخاوف من تحول النقد الثقافي إلى محاكمة أخلاقية للنص الأدبي واستغلال السلطة لهذا المسمى لمحاكمة المبدعين أيديولوجيا، أجاب الغذامي "كلامي عن المثقف كفرد لا ينسحب على الثقافة كمفهوم. وإذا تحول النقد الثقافي إلى محاكمة أخلاقية فهذا جرم معرفي وثقافي، لأن المحاكمة الأخلاقية في أي مجال سياسي أو ديني أو ثقافي هي ليست من شأن المعرفة، بل من شأن القضاء والقانون والأحكام القانونية. وأي مثقف يحاكم المبدعين أخلاقيا من خلال نصوصهم الإبداعية يعني أنه استقال من المعرفة ولبس لبوسا غير المعرفة وبالتالي نقده واجب.

الناقد منقودا هي الحصانة الوحيدة التي تحمي الناقد من نفسه ومن أن يرى نفسه سلطة أو يراه غيره سلطة. أما بالنسبة للتخويل فلا أحد يخول أحدا بالمعرفة باعتبار أن التخويل كلمة تنتمي إلى عالم الإدارة والنظم والتطبيق. لكن المفكر أو الباحث هو من يندب نفسه لذلك كما يحدث مع الشعراء حين تختاره القصيدة باعتبارها هي التي تختار الشاعر وليس الشاعر من يختارها، وعندما تأتيه تمسك بتلابيبه كما كان يحدث مع الجواهري مثلا عندما تأتيه القصيدة. الناقد كذلك لا يستطيع أن يقرر الكتابة عن نص ما. على هذا النص أن يمسك بتلابيبه أولا حينئذ فقط يتمكن من الكتابة عن النص. لذلك القاعدة المعرفية التي نتوخاها، ليست بالمحاكمة الأخلاقية، ولكن بأخلاقيات المعرفة، فأخلاقيات المهنة غير المهنة. أنا مثلا لا أحب النقد الأدبي، إذن أتركه لغيري ممن يحب هذا المجال ويجيده. حدث لي مرة مع أحد الأشخاص عام 1968 عندما كتبت له قصيدة اعتذار. قرأها وقبل الاعتذار لكنه قال لي بما معناه إن قصيدتك متوسطة وفي زمننا هذا إما أن تكون في المقدمة أو لا. ولم أكتشف أنني لست شاعرا إلا في عام 1983 وأنا منهمك في تأليف كتابي 'الخطيئة والتكفير' ومنهمك في النظريات، فوجدت نفسي في النظريات ومن وقتها انسحبت من الشعر ومضيت مع النظرية النقدية، فهناك لحظة لا بد أن يجد فيها الواحد منا نفسه ثم يمضي حينما يجد نفسه. لكن علامات البحث عن النفس أن تكون غير مرتاح للذي بين يديك. وبالتالي إما أنك تجد نفسك غير متقن لحقوق وأخلاقيات هذه المهنة أو أنها ليست مهنتك، وقد تكون لك مهنة ثانية لم تكتشفها بعد، فقط اسمح لها بأن تأتي".

 مشروع تحديث

قدّم الناقد العراقي ضياء خضير شهادة عن عبدالله الغذامي قال فيها "مشروع الغذامي مشروع تحديث. وهو مشروع حضاري يريد النقلة وتغيير ما هو موجود. فوجود الغذامي في السعودية والجزيرة العربية لا يشبه وجود طه حسين في مصر مثلا، حيث من الطبيعي خروج مفكر مثل طه حسين من البيئة المصرية. وأعتقد أن التحديث الذي يجري الآن في المملكة ليس بعيدا عن الإسهام الذي قدمه الغذامي والكثير من زملائه الذين عرفوا الحداثة وقدروها حق قدرها. أستطيع أن أشبه العلاقة بين الغذامي وبين النقد الثقافي والأدبي بالعلاقة بين الشعر والتاريخ، فالتاريخ هو الوعاء الذي يحتوي كل المضمرات من الأنساق التي يستطيع الدكتور الغذامي أن يستخرج منها ما يستخرج من أمور هذا النسق أو ذاك.

 وكما يقول أرسطو، فإن الشعر أهم وأسمى من التاريخ. فبينما يعنى التاريخ بالمسائل الجزئية يعنى الشعر بالمسائل الكلية. الغذامي بنقلته من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي يمثل أفقا أوسع ذا طبيعة فكرية وفلسفية. والقلق الذي يتبناه الغذامي هو عصب الثقافة الحديثة عربيا وغربيا. ومشكلتنا في الثقافة العربية تاريخيا هي الثبات والركود على ما هو موجود. منذ كتابه 'الخطيئة والتكفير' رغم اختلافي معه في بعض الأمور إلا أنني وجدت أن صوته مختلف ومتفرد ويستحق الاحترام والمتابعة، وأحيي هذا الرجل وأشد على يديه، لأن محاولته التحديثية لم تقتصر على بلده العظيم المملكة العربية السعودية، بل امتدت إلى خارج هذا البلد".