الناقدة ناهد صلاح: أطمح إلى كتابة مسيرة رواد الفن الكبار

أحمد سميسم
ساهمت مواقع التواصل والمنصات الرقمية في تزايد مهول في الأعمال السينمائية والدرامية المنتجة، كما ساهمت في انتشار ظاهرة نقد الأفلام، والتي يعتبر أغلب من يمارسها بلا دراية كافية بالنقد. ويبقى النقد ضروريا لتطور أي عمل فني. فيما يلي حوار مع الناقدة والكاتبة المصرية ناهد صلاح حول النقد وقضايا أخرى.
بغداد - الناقدة الفنية المصرية ناهد صلاح لامست أناملها الكتابة منذ بواكير نشأتها الأولى، لتجد نفسها مزروعة ما بين الكتب والجرائد والمجلات تلك التي كان منزلها لا يخلو من رائحة الورق وعبير حبرها. ناقدة سينمائية وكاتبة وصحفية استطاعت أن تمسك أكثر من تفاحة بيد واحدة بكل جدارة ومهارة، وبسبب حبها للكتابة انطلقت بأفق خيالها نحو عوالم إبداعية شتى فشقت طريقها لتصطاد الحروف بقلمها الذي لم ينجرف نحو السطحية أو المجاملة قط.
كان تواجدها في بغداد لحضور مهرجان بغداد السينمائي حلمها المنتظر الذي طال انتظاره فتحقق، وكانت لها مشاركة مميزة في المهرجان عبر فيلمها “شارع شامبليون” للمخرجة أسماء إبراهيم الذي أثار إعجاب الحاضرين.
النقد والكتابة
نسأل ناهد صلاح في البداية إن كان النقد حرفة أم موهبة أم علما؟ لتجيبنا “ما هذا السؤال الفخ؟ نعم إنه فخ كبير، لأنه ملتبس ومُربك، قد يؤدي إلى نوع من الحيرة وربما يصنع بعض التشويش، إذا لم نتأمله بروية، إذا لم نحاول استبصار مفهوم النقد ومعاييره وأحكامه ومراحله من التفسير الذي يُوضح المضمون والمعنى، إلى التحليل الذي يشرح أسلوب العمل في تقديمه للفكرة، ثم التقويم أو التقييم الذي يقدم حكما على العمل، وفقاً لمناهج وأدوات مختلفة”.
وتضيف “السؤال كما مفهوم النقد يطرح إشكالية كبيرة تواجه النقاد والحركة النقدية، ويجعلنا ندرك أن النقد ليس تشخيصا للعيوب فقط، بل يستنطق العمل الفني ويفككه قبل أن يحكم عليه، وهذه عملية ليست هينة وإنما تحتاج إلى جهد ذهني وتواصل نفسي من الناقد مع العمل الفني بكل مستوياته الجمالية شكلا ومضمونا من دون إهمال السياق الاجتماعي والمعطيات الذاتية وعلاقتها بالمحيط الخارجي وظروف إنتاج العمل، فهذه النقطة بالذات تصل بنا إلى أن المبدع حر في إبداعه، لكن الحرية ليست مطلقة، وأيضا يكون الناقد ملتزماً بقواعد يطبقها”.
الكتابة النقدية استكمال للصناعة الفنية وهي التنوير في الفضاء الثقافي العام والإسهام في تحسين الوعي المعرفي والجمالي
وتتابع “الشائع أن الكتابة موهبة، إن هذا الكلام صحيح لكنه منقوص إذا لم يمتلك الناقد درجات من المثابرة والدأب والتدريب بجوار موهبته في الكتابة والتأمل والتقاط التفاصيل. يتفق جميع المفكرين وفلاسفة الفن وحتى علماء النفس على أن الموهبة حالة فطرية إنسانية، لكنها تتطور بفعل التربية والتعليم والظروف الاجتماعية والبيئية المحيطة بها. وأنا من واقع تجربتي وقناعتي أؤمن بذلك الرأي، فالتراكم التاريخي الفني والمعرفي والثقافي الذي يوفره المجتمع يدعم التطور ويُنمي الموهبة”.
من هذا المنظور ترى أن النقد حرفة وموهبة وعلم، إنه الهامش الذي يحتويها جميعا. النقد اختيار فيه قدر من الذاتي والشخصي. كمية العناء في مهنة النقد لا يدركها إلا من يمارسها، كذلك فإن المتعة في مزاولة النقد لا يحظى بها بطبيعة الحال إلا من يتعاطى معها، والنقد عموما صنعة تعتبر من المهن القليلة التي تعتمد على المزاج.
نسأل صلاح كيف اتجهت بوصلتها نحو عالم النقد السينمائي والكتابة، فتقول “في طفولتي كانت عيناي قد تعلمت أن تسبق شفتاي إلى أي كلمة مكتوبة، فمنذ تعلمت القراءة كنت أصطاد الحروف وأنشغل بإعادة تركيبها، أتابعها على مهل كأنني أختزنها. كلمة على علبة سجائر أبي وصحيفته وعناوين كتبه والمصحف الكبير على المنضدة الصغيرة التي تتوسط غرفة المعيشة، زجاجات الأدوية، الملصقات على الثلاجة، أوراق الجرائد المقصوصة على هيئة مثلثات التي كانت جدتي تفرشها في الدولاب الزجاجي وترص عليها بعناية الأطباق والأكواب. إدراكي البصري سبق إدراكي المعرفي وأشعل خيالي، فكنت أتصور حكايات وراء الكلمات وأتخيل شخوصها وكبرت لعبة الحروف”.
الإنترنت لم يقتل النقد بل أتاح الفرصة لأقلام حقيقية لم تجد مساحة أخرى للظهور ولأقلام لا دراية لها لتمارس نقدا مشوها
وتتابع “كنت أقرأ الكلمات بحروف مقلوبة وبالتالي أقلب معها الحكايات، أتخيل النهاية أولاً ثم أسرد التفاصيل، بالضبط مثل الأفلام التي تبدأ بالمشهد الرئيس أو الحالي وبعده تعود بنا إلى فلاش باك، كما اعتادت أمي أن تأخذنا في رحلة فلاش باك وتُلون أمسياتنا بحكايات طفولتها وحين تأتي عند سينما سعودي كانت تتوقف كثيرا. سينما سعودي كانت صالة العرض الوحيدة في “طوخ” المدينة الصغيرة التي تتبعها قريتنا، كان يمتلكها جد الفنان فتحي عبدالوهاب وكانت واحدة من دور العرض الخاصة التي انتشرت بعد ثورة يوليو في الأقاليم والريف والأحياء الشعبية داخل المدن”.
المثير أن صلاح دخلت السينما لأول مرة وكانت بالكاد قد أتمت شهرين من عمرها، وهي لا تستطيع أن تحدد الآن هل كان فيلم “أبي فوق الشجرة” هو نقطة البداية في علاقتها بالسينما، أم أنه أيضا إشارة الولوج إلى شخصيتها الرومانسية أو التائهة؟ اللعبة الجوزائية المعتادة، لكن المؤكد أن علاقتها بالسينما بعد ذلك تلخصت في مشاهداتها للأفلام القديمة على شاشة التليفزيون في المنزل، وتذكر كيف وقعت عيناها على مقال نشرته إحدى المجلات للناقد علي أبو شادي عن فيلم “الجوع” للمخرج علي بدرخان في العام 1986، كانت لا تزال طالبة صغيرة في المدرسة تحلم بمستقبل أكبر من سنوات عمرها، وقد تعلقت من خلال المقال بالسينما كأداة مهمة من أدوات النضال الاجتماعي والثقافي.
تشتغل صلاح في حقول شتى ما بين الأدب والفن السينمائي كمحاورة وناقدة إضافة إلى مسارها في الإعداد الدرامي، نسألها أيهما له الأولوية في نتاجاتها، فتجيبنا “بدأت الكتابة الأدبية مبكراً، حتى أنني لا أذكر متى بدأت بالضبط، ولا أذكر حتى الحافز المباشر الذي جعلني أكتب قصتي الأولى، وإن كنت أذكر أنني حرصت على إرسالها إلى إحدى مجلات الأطفال، وقرأتها لشقيقاتي وسط دهشتهن التي غطت على ضحكات الكبار في عائلتي.
بعدها راحت تكتب القصة وتنشرها بشكل متفرق ومتباعد في بعض المجلات، بينما يستحوذ عملها الصحفي على كل تفكيرها ووقتها عن طيب خاطر، خصوصاً أن تركيزها على الكتابة السينمائية حقق لها ما رغبت فيه دائما في متابعة الأفلام ومتعة الحكي من خلالها، وهذا كان له تأثير كبير في شكل كتاباتها عموما حيث تغلب عليها الصورة، ربما تأثرت بالسينما بحكم عملها ولكنها مهتمة دائما بالتفاصيل التي تصنع صورة وتكونها.
غالباً ما تكون هناك صعوبة في تقبل النقد الهادف الموضوعي، وأحيانا يكون مرفوضاً لاسيما بين الوسط الفني، تحدثنا صلاح عن طريقة تعاملها نقديا مع المتلقي، تقول “حين أكتب لا يشغلني رأي الآخرين، أركز فقط في رؤيتي واستبصار ما يحمله العمل الفني من فكرة وموضوع وصنيع بصري، كما أفتش عن الحس الجمالي فيه، يعنيني جدا الجمال وأسعى لالتقاطه”.
تغيير جوهري
صلاح تقر بأن الفن لا يمكن أن يستغنى عن النقاد، حتى لو كان بعض الفنانين لهم رأي آخر
عن الرسالة التي أرادت إيصالها من خلال فيلمها “شارع شامبليون.. تأملات مدينية” للمخرجة أسماء إبراهيم الذي عرض في مهرجان بغداد السينمائي، تقول الناقدة المصرية “الفيلم عن قصة شارع شامبليون التي وردت في مجموعتي القصصية ‘دومينو‘ الصادرة عن دار مصر العربية في العام 2014، وهي مجموعة ترصد علاقة امرأة بالآخر، هذا الآخر هو الرجل وهو المجتمع، نرى المد والجزر في علاقتها بالمدينة كحجر وكبشر. تغوص الحكايات في دواخل المرأة كاشفة عن حنين ومشاعر إنسانية دافئة، فضلاً عن خصوصيتها بالمزج بين العام والخاص”.
وتبين أن قصة “شارع شامبليون” تحديداً تطرح العلاقة بين المؤلفة والمدينة، نرى من خلالها امرأة مصرية هي الكاتبة نفسها، حرة تحكي عن الشارع الذي قضت فيه أغلب سنوات عمرها وتكشف عن علاقتها بالمدينة والتحولات العنيفة التي مرت بها المدينة، امرأة تواجه مخاوفها بالكتابة وتتحرك على الشاشة كأنما تقود عالمها الصغير إلى وجهة جديدة.
نسألها هل ساعدت السوشيال ميديا في صناعة النقاد؟ تقول “لا بد أن نعترف أن النقد السينمائي في عالمنا العربي تقريبا غائب في الصحافة الورقية، وحتى الكتابة في المواقع الإلكترونية تفتقد غالبا للحس النقدي السليم، كتابات قليلة التي تحقق المتعة والوعي، والأغلبية صارت لكثيرين يقدمون مراجعات للأفلام أو يثيرون قضايا خاصة تتعلق بالنجوم، وهذا ما جعل البعض من كبار السينمائيين يتحدثون عن موت النقد لصالح هذه الموجات الجديدة، حتى لا أكون متعسفة وقاسية فإن الإنترنت لم يقتل النقد، بل أتاح الفرصة لأقلام حقيقية لم تجد مساحة أخرى للظهور، لكنه كان أفقاً أوسع لهؤلاء الجدد الذين لا يهتمون بالنقاش الجدي حول الأفلام والقضايا السينمائيةـ إنما بتلاوة حكايات الأفلام أو إشاعة أخبار وفضائح النجوم”.
وتقر صلاح بأن الفن لا يمكن أن يستغنى عن النقاد، حتى لو كان بعض الفنانين لهم رأي آخر، أو أنهم يدعون عدم اهتمامهم واكتراثهم بآراء النقاد، فالكتابة النقدية هي استكمال للصناعة الفنية وهي التنوير في الفضاء الثقافي العام والإسهام في تحسين الوعي المعرفي والجمالي والبصري من خلال الكتابة عن المشاهدات الفنية وتقديم قراءات فنية مختلفة.
وأكدت على أن الناقد الواعي هو القادر على إثارة النقاش دون أن يكون تابعاً أو ظلاً لأحد، إنه معني فقط بالعمل الفني وليس بمنافع وحسابات أخرى لا تتعلق بمقومات الثقافة السينمائية التي تحتاج إلى من يحصنها في مواجهة المنتفعين. عانى النقد السينمائي والفني العربي عموما كثيرا ويحتاج إلى مشروع ثقافي متكامل للنهوض به.
الناقد الواعي هو القادر على إثارة النقاش دون أن يكون تابعاً أو ظلاً لأحد
تجذب صلاح الكتابة عن السير الذاتية الفنية أكثر من غيرها فصدرت لها كتب حول ذلك مثل كتاب “عمر الشريف بطل أيامنا الحلوة”، وكتاب “سامية جمال الفراشة”، وكتاب “سمير صبري حكايتي مع الزمن” وغيرها، نسألها ما الذي يستهويها في السير الذاتية؟ وهل هناك شخصية فنية معينة تتوق في تخصيص كتاب لها في الأيام القادمة؟
تجيبنا صلاح “لدي طموح أن يكون هناك مشروع وجود كتب تتناول مسيرة رواد الفن الكبار حتى يتعرف عليهم الجمهور، ويعرفون جزءاً من تاريخ هذا الوطن وكيف صنع فنه وفنانيه، وذلك كجزء من مشروع ثقافي شامل يعيد ارتباط الناس والشارع بجذورهم الثقافية وتصويب اتجاهاتهم نحو التنوير، حظيت بتقديم الكتب عن الرواد وكبار الفنانين وتحقق جزء من حلمي وإن كان لازال ناقصا، لأن بعض هذه الكتب تصدر عن مهرجانات سينمائية وتوزع بين النقاد والصحفيين، وإن صارت في مكتبتنا الفنية، لكن لا توجد منها نسخة شعبية للجماهير العادية، يستثنى من ذلك كتابي ‘عمر الشريف بطل أيامنا الحلوة‘، وكتابي القادم ‘الفراشة سامية جمال‘، مجمل الشخصيات التي كتبت عنها، هي تمثل روح الحكايا المصرية، فكل شخصية منها تمثل جزءاً من الشخصية المصرية عموما بخصائصها التي لا تسير على وتيرة واحدة”.
نسألها كيف تقيم توجه بعض شركات الإنتاج على إنتاج مسلسلات ذات 15 حلقة تلفزيونية، هل تقليص عدد حلقات المسلسل سوف يشبع فضول المشاهد ويعوضه عن 30 حلقة؟
تقول صلاح “ثمة تغيير جوهري من خلال هذه المسلسلات، إذ ينحو الاتجاه الجديد منذ فترة صوب تأكيد مذهب مسلسلات الـ15 حلقة، بدلاً من الـ30 حلقة الحتمية التي لازمت جمهور الدراما التلفزيونية خصوصاً في شهر رمضان سابقا، إنه النمط الذي تدرج مؤخرا عبر المنصات الإلكترونية خارج الموسم الرمضاني، وهو ما يشير إلى تأثير هذه المنصات في تغيير ما يحدث سواء في قوانين السوق التقليدية أو طريقة تلقي الجمهور. أشجع هذا الاتجاه وهو بالمناسبة كان موجوداً في مصر قديماً، بل كانت توجد السباعية “سبع حلقات” والخماسية، فهذا يمنح فرص التنوع الدرامي وظهور وجوه جديدة سواء في التمثيل أو الكتابة أو الإخراج والعناصر الفنية الأخرى”.
وحول تقييمها للمهرجانات السينمائية العربية، تقول “بشكل جدي، هناك مهرجانات سينمائية عربية قليلة تفلت من فخ التسطيح، لكني من الفريق الذي يشجع على إقامة المهرجانات وزيادة عددها بشرط أن تكون متنفسا حقيقيا للفن والثقافة والبهجة، فهذا أمر مُلح وضروري في مواجهة الإرهاب والعنف”.