الناشرون يراهنون على المقاهي الأدبية في الجزائر

المقاهي الأدبية تشكل حراكا ثقافيا وأدبيا وفكريا بديلا لثقافة مؤسسات الدولة في الجزائر المتميزة بالبرودة والروتين.
السبت 2018/07/21
الكثير من دور النشر ومكتبات البيع تراهن على المقاهي الأدبية للترويج للكتاب

حين يكون المال في غير مكانه يؤدي إلى خراب الثقافة ويفتح الباب واسعا على حالة من تسوّس المثقف والمبدع.

كلما تأزم الوضع المالي وتناقصت ميزانية الدولة لقطاع الثقافة وتراجعت جراء ذلك مظاهر البذخ المتمثلة في تنظيم مهرجانات كرنفالية لا طائل من ورائها سوى تكاثر أشباه المثقفين وأشباه الشعراء وأشباه المسرحيين وأشباه السينمائيين الذين يتسارعون للنقر في صحون الولائم… في مثل هذه الحالة تنمو الثقافة المُقاوِمة وهي ظاهرة ثقافية رائدة وشعبية عميقة، ويتم احتضانها من قبل المجتمع المدني، حيث تتولى الجمعيات الثقافية الأهلية الفعل الثقافي الجاد وينتج عن ذلك تصالح ما بين المثقف التنويري ومحيطه السوسيوـثقافي الحر.

وفي الجزائر وأمام هذا الوضع المالي المتأزم، تراجعت هيمنة مؤسسات الدولة على الثقافة والمثقفين، فنشأت بالمقابل ظاهرة ثقافية بارزة ومؤثرة وهي هذه المقاهي الأدبية والتي أصبحت تعد بالمئات، وتقوم على شأنها مجموعة من نشطاء المجتمع المدني الثقافي الذين، وبحس وطني مقاوم، يناضلون من أجل التأسيس لتقليد ثقافي جديد ومتميز، أساسه الدفاع عن حرية التعبير.

والملفت للانتباه أن غالبية هذه المقاهي الأدبية يديرها ويشرف عليها جيل جديد من الشباب المهتم بالفعل الثقافي، ويضع هؤلاء الشباب على رأس اهتماماتهم قضية الدفاع عن الكتاب والترويج للقراءة.

وتنفرد منطقة القبائل بالحصة الكبيرة من هذه المقاهي الأدبية الفاعلة والتي أصبحت تشكل حراكا ثقافيا وازنا، فلا تكاد تجد قرية واحدة في ولاية تيزي وزو وبجاية والبويرة لا تملك مقهاها الأدبي.

وقد فاق عدد هذه المقاهي في ولاية بجاية وحدها الخمسين مقهى أدبيا، ويقف على رأس هذه الشبكة من المقاهي الأدبية مقهى أوقاس بولاية بجاية ومقهى تعوينين ببوزغن بولاية تيزي وزو وقد أصبحا موعدا أساسيا لحوار النخب الجزائرية الفاعلة والمؤثرة.

وأعتقد أن هذا الحراك الثقافي الجزائري الفريد من نوعه في البلدان المغاربية والعربية وحتى على المتوسط، هو الكفيل فعليا لإعادة الاعتبار للثقافة الجادة والأدب المقاوم بالجمال وبالفكر أيضا.

وتنظم عادة هذه المقاهي الأدبية في أماكن بسيطة جدا، بل فقيرة، كبيوت الشباب أو المراكز الثقافية البلدية أو في قاعة الحفلات الخاصة، وهي فضاءات شعبية وأكثرها لا تتوفر حتى على أبسط مستلزمات الاستقبال.

ومع ذلك فأكبر الأسماء الأدبية الجزائرية المقيمة بالبلاد أو الدياسبورا الجزائرية والتي تمثل بحق المقاومة الثقافية للرداءة قد نزلت ضيفا على هذه الفضاءات، وأن هناك إجماعا من الأوساط الأدبية والفكرية التنويرية أنها لا ترفض دعوات هذه المقاهي الأدبية، وقد يضحي الواحد بوقته وببعض ماله كي يخاطب ويجلس ويتحاور مع هؤلاء الشباب من القراء والمواطنين.

وتلعب هذه المقاهي الأدبية دورا كبيرا في فك العزلة عن هذه القرى وعن مواطنيها ممن لهم ميولات ثقافية وأدبية وفكرية، حيث هي نافذتهم الحوارية مع الفاعلين الثقافيين والأدبيين حول ما يجري في الجزائر.

والملفت للانتباه أيضا أن غالبية هذه المقاهي الأدبية لا تتبع لأحزاب سياسية بل هي فضاءات تتميز بالاستقلالية وبالدفاع عن الحرية الفكرية وأن همها الأساسي هو الرفع من الحوار الثقافي والفكري والسياسي الجاد في الجزائر، ومواجهة التخلف والسلفية والتهميش.

وشيئا فشيئا بدأ يتشكل ما بين هذه المقاهي الأدبية نوع من التنسيق في الاستضافات للكتاب، وهو ما يجعل من الكاتب قريبا من قرائه بشكل واسع وأيضا ما يجعل المقاومة الثقافية أكثر فاعلية.

ولأن هذه المقاهي الأدبية بدأت تشكل على المستوى الفعلي حراكا ثقافيا وأدبيا وفكريا بديلا لثقافة مؤسسات الدولة المتميزة بالبرودة والروتين والفلكلورية ولأن خطابا نقديا جادا وعميقا وهادئا بدأ يتبلور في هذه المقاهي الأدبية، فقد بدأ التضييق عليها بأساليب مختلفة بيروقراطية وأمنية ومادية، كطلب الرخصة من السلطات المحلية لتنظيم أي محاضرة أو لقاء مع كاتب أو بغلق الفضاء البلدي الذي يأوي مثل هذه الفعاليات أو رفع الكراسي من القاعة أو المنع بشكل مباشر بحجج مختلفة، وحين تصل الأمور إلى مثل هذا الوضع فذلك يدل على أن هذه المقاهي بدأت تحقق مبتغاها في التأثير على العامة.

وأعتقد أيضا أن ما تقدمه هذه المقاهي الأدبية للمجتمع الجزائري هو الرفع من مستوى ثقافة النقد وتكريس قيم المواطنة، ويلاحظ الحضور النوعي للمرأة في مثل نشاطات هذه المقاهي الأدبية، وتشكل هذه اللقاءات جلسات من النقاش الأدبي أو الفكري أو العقائدي الصريح والهادئ والذي يسمح بفتح العلاقة ما بين الأفراد ومحيطهم العام ويرفع  الوعي الجمعي لمواجهة كل تضليل أو سلبية.

ولقد أصبح الكثير من دور النشر ومكتبات البيع تراهن على هذه المقاهي الأدبية للترويج للكتاب أكثر مما تقوم به وسائل الإعلام على اختلافها الخاص منها والعمومي، وأعتقد أن إنعاش الكتاب الأدبي والتاريخي والفكري في السنوات الأخيرة يعود الفضل فيه إلى هذه المقاهي الأدبية.

والملاحظة التي يجب تسجيلها أيضا هو أن غالبية هذه المقاهي الأدبية تحتفل في المقام الأول بالكتاب التنويري، وهذه ظاهرة صحية تحمي المجتمع الثقافي من الفكر الظلامي.

والملفت للانتباه أيضا هو أن غالبية المقاهي الأدبية تحتفل بشكل كبير بالكتاب باللغة الفرنسية أو الأمازيغية، أما الكتاب باللغة العربية فحضوره في هذه المقاهي الأدبية لا يزال خجولا.

14