المُحكّم المذعور

يصاحب إعلان بعض الجوائز في أغلب الأحيان لغط يدور قسم منه عن مدى جدارة مَن تمّ اختيارهم وتتويجهم، وما إن كانوا مستحقّين حقّا أم أنّ هناك روافع خفيّة ساهمت بتصديرهم وتسويقهم وتتويجهم..
ولا يخلو الأمر من غمز ولمز من قبل البعض على أعضاء لجان التحكيم، بحيث يدور همس -قد يتحوّل إلى اتّهامات معلنة أحيانا- عن أهلية مَن اختاروهم وما اختاروه، وتحمّلهم مسؤولية ذلك، وتحلّيهم بالقدرة على الدفاع عن وجهة نظرهم وانتقائهم عن قناعة حقيقيّة، لا عن موقف ضعف لا يخلو من بؤس وخيبة.
هناك بعض المحكّمين الذين يتحاشون أيّ اصطدام مع المرشّحين الذين سيعرفونهم لاحقا، حين الكشف عن أسماء اللجان إذا كانت غير معلنة منذ البداية، فيحاولون تحاشيه بسبل مختلفة، كأن يختاروا أسماء كُتّاب تمّ تكريسهم وأصبحوا يعرفون في الساحة بأنّهم “كبار”، بحيث يدرج أسماءَهم في اللوائح التي يختارها، ويتملّص من مواجهتهم المحتملة التي لا يطيقها في حال رفض تصدير أعمالهم..
ربّما يوصَف المحكّم الذي ينتقي ما ينتقي بناء على سلوك انتخابي لا على على اختيار موضوعي مبرّر بناء على النصوص، لا على أسماء أصحابها، يفتقر إلى الثقة بالنفس، ويدرك في قرارته أنّه غير ناجز إبداعيا، وغير قادر على مواجهة مَن صُنّف إعلاميا ضمن خانة الكُتّاب الكبار، فيتخفّف من المسؤولية، ويرتكن للذعر من سطوتهم، ويضع أسماءهم ونصوصهم ضمن اللوائح التي يقدّمها تلافيا لأيّ نقد لاحق من قبلهم..
وكما هو شائع أحيانا، لا يعدم أن يكون تصدير بعض الروايات أو الأعمال أو تتفيهها أو تسخيفها، بناء على إيحاءات وإشارات من قبل البعض من المتنفّذين في معمعة التتويجات والتنفيعات، ويكون المحكّم المذعور في هذه الحالة مستكينا، محابيا، متملّصا من المسؤولية، مقدّما أسماء مشهورة ليتلافى مواجهتها باعتباره مفتقدا الثقة برأيه وإبداعه.
لا يخفى أنّ الواثق من إبداعه ومنجزه الأدبي والإنساني، لن يساوم في رأيه ولن يخشى، حين إطلاق حكمه، أيّ سطوة، سواء لتلك الأسماء التي تعيش وهم الكبَر والغرور، أو أحد من أولئك الناشرين الذين يتفنّن بعضهم في الالتفاف على لوائح الجوائز وأعضاء اللجان، من أجل تأمين التسويق اللازم والترويج المأمول للأعمال التي يصدرونها ويرشحونها، لأنّ من شأن اختيارها جذب أعين المشترين إليها.. أي أنّ الأمر محصور في إطار التجارة والبيع، لا في إطار الأدب والإبداع كما يفترض به أن يكون.
وبالمقابل هناك محكّم مسؤول، واثق من منجزه ومدرك لمسؤولياته، يعتمد آليات واضحة، منها مثلا، البناء اللغوي الذي يشمل سلامة اللغة وقوة الجملة السردية وبلاغتها وقدرتها على إيصال المعاني المنشودة، ورسم الشخصيات وإيضاح الأفكار، مع الاشتغال الموضوعاتي المتركّز على الخطوط والمحاور والموضوعات التي يعالجها الكاتب في عمله، ومدى براعته من إيفائها حقها.
ناهيك عن البناء الفني الشامل للعناصر الفنية والتقنيات التي يستعين بها، والقدرة على الإمساك بزمام تطور العمل وعدم الانزياح عن الخطوط التي يرسمها لها، بالإضافة إلى البناء التخييلي من أجل بلورة نص متخيل، سواء كان متّكئا على الواقعي أو التاريخي أو التخييلي، أو منطلقا من أيّ منهم، وتظهر البراعة في سبك النص بلغة ناضجة ولافتة.
ولا شكّ أنّه بالإضافة إلى هذه العناصر والتفاصيل يعتمد على ذائقته التي راكمها عبر الزمن ومن خلال الخبرات والتجارب التي خاضها ومرّ بها، ومن خلال الاحتكام للضمير دوما، ليكون حكمه متخففا وبعيدا من أي تأثيرات أو مخاوف من شأنها إظهار الخلل المتجلّي لديه بانعدام حيلته ووسيلته أمام مسؤولياته المفترضة.