الموسيقى سلاح ناعم لحماية الهويات من الاندثار

"نوبي كورو" يوظف الغناء لنشر اللغة النوبية.
السبت 2022/01/29
بالموسيقى نحيي لغتنا

تستخدم الموسيقى للعلاجات النفسية والطبية لكنها قد تستخدم أيضا كسلاح لحماية الهوية من الاندثار، فبالغناء يمكن توثيق الموروث اللغوي وتعلّمها ومن ثمة تعليمها للأجيال الصاعدة التي تضطر في الكثير من الأحيان إلى تعلم اللغة السائدة بين المجتمعات تجنبا للعنصرية.

القاهرة- يتأمل النوبيون في مصر هويتهم وهي تنسحب من حياتهم اليومية تدريجيا، فتبتعد الأجيال الجديدة عن الحديث باللغة الأم للضرورة الحياتية.

وإذا ما اندثرت اللغة ستغيب معها الكثير من مقومات الهوية النوبية ومن بينها الموسيقى وعدد كبير من الفنون الأخرى، لكن الموسيقى قد تكون حلاّ سريعا لإعادة نشر اللغة بين أبنائها.

وعلى الرغم من أن الفتاة المصرية النوبية جهاد أشرف (28 عاما) نشأت في مدينة أسوان بجنوب مصر، حيث عاش أسلافها منذ ألوف السنين، فإنها لا تستطيع أن تتكلم سوى خمس كلمات فقط بلغتها الأم النوبية.

وتقول جهاد إنها مثل ألوف غيرها من شباب جيلها، لم تتعلم التحدث بالنوبية خوفا من النبذ أو التنمر. لكن عندما انتقلت إلى القاهرة قبل بضع سنوات لتحصل على درجة الماجستير في القانون، قررت جهاد أن تتعلم اللغة النوبية.

وبعد أن أنهت دورة لتعلم اللغة مع معلمتها خيرية موسى، أسست جهاد مع مجموعة من زملائها مبادرة “نوبي كورو” لنشر اللغة النوبية عن طريق الغناء. وقالت جهاد “اسمي جهاد أشرف، عندي 28 سنة، أنا عضو مؤسس في مبادرة نوبي كورو”.

ويجتمع مؤسسو المبادرة الفنية أسبوعيا ليدرسوا ألحان أغنية نوبية بعينها ثم يغنونها معا لتعلم اللغة، ويقولون إنهم يرحبون بانضمام النوبيين وغير النوبيين إليهم.

وأضافت جهاد “كلنا لدينا هذا الشغف، ونحن نريد تعلم لغتنا النوبية، نشعر بالغيرة على اللغة النوبية إن هي أوشكت على أن تكون منسية، اللغة النوبية للأسف قربت تندثر. الجيل الجديد الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و14 سنة ليس من بينهم يتقنها، حتى أهالي القرى الآن لا يعلمون الأطفال لغتهم الأم مثل الماضي. في السابق، كان الأطفال يتعلمون اللغة النوبية قبل أن يتعلموا اللغة العربية، الآن الموضوع للأسف تغير كثيرا”.

☚ نشأة الموسيقى عند شعب النوبة تعود إلى أكثر من أربعة آلاف عام

ومعلوم أن النوبيين ينتمون إلى أقلية عرقية عاشت في جنوب مصر منذ آلاف السنين. وتمتد بلاد النوبة تاريخيا من جنوب مصر إلى جنوب نهر النيل وتقع في الجزء الممتد من الشلال الأول حتى الشلال الرابع، وتنقسم إلى النوبة السفلى والعليا. وتمتد النوبة السفلى (النوبة المصرية) إلى حوالي 320 كيلومترا جنوب أسوان على جانبي النيل حتى الشلال الثاني عند وادي حلفا. أما النوبة العليا فتقع داخل حدود جمهورية السودان، ويضم المجتمع النوبي ثلاث قبائل كبرى رئيسية هي “العرب” و”الكنوز” و”الفاديجكا”.

وتعود نشأة الموسيقى عند شعب النوبة إلى أكثر من أربعة آلاف عام حيث كانت مملكة النوبة، وهناك بدأت الموسيقى القبلية التي كانت تميز موسيقى الفراعنة في منطقة الجنوب بداية من الأقصر وحتى الجندل الثاني، واختلطت بموسيقى الشمال وتطورت واستخدمت نفس الآلات الحديثة مثل الهارب إلى جانب الآلات الشعبية.

واستمرت هذه الموسيقى في التطور حتى العصر البيزنطي، فدخل الإنشاد القبطي إلى النوبة، ودعمت الموسيقى النوبية ببعض الآلات الإيقاعية مثل الدف والصنج النحاسية، وكان لعصر الإنشاد تأثير استمر طويلاً في غناء وموسيقى النوبة.

وتعتبر الموسيقى النوبية فولكلورية بشكل كبير، ويحاول الفنانون النوبيون التعريف بثقافتهم الموسيقية حتى وإن انساقوا وراء الشهرة والغناء باللغة العربية، وأشهرهم ربما على الساحة المصرية والعربية الفنان محمد منير المولود بقرية المنشية في النوبة والمعروف بموسيقاه التي يخلط فيها الجاز بالسلم الخماسي النوبي.

ومنذ عام 1964، مع إنشاء السد العالي في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر نزح النوبيون من ديارهم. فقد غمرت المياه بيوتهم لإفساح المجال لبناء السد واضطر سكانها لإعادة التوطين.

وينصّ أحدث دستور مصري، الذي صدر عام 2014، على أنه يجب على الدولة العمل على إعادة توطين النوبيين في أراضيهم الأصلية في غضون عشر سنوات.

وقد شهدت معلمة جهاد خيرية موسى عمليات تهجير النوبيين في حقبة ستينات القرن الماضي عندما كانت طفلة قبل أن تنتقل إلى القاهرة مع أسرتها.

وقالت خيرية موسى “أنا شهدت حملة التهجير كلها ورأيت البواخر التي حملتنا إلى أن وصلنا إلى قرية النوبة الجديدة، دخلت المدرسة هنا. في البدايات كنا محتفظين باللغة جدا، لكن حين دخلنا المدارس، خاف أهالينا من أن ينصب تركيزنا على اللغة النوبية فلا نستطيع النجاح في دراستنا، فكانوا يمنعوننا من الكلام باللغة النوبية، يمكن القول إنه من هنا بدأت لغتنا في الاندثار”.

وحاليا لا يتحدث اللغة النوبية، التي كان يُعتقد لفترة طويلة أنها بلا أبجدية، سوى عدد قليل من النوبيين. لكن خيرية موسى تقول إن بعض الباحثين النوبيين نجحوا في العثور على مخطوطات نادرة لكتابات نوبية قديمة.

وفي ما يتعلق بأحلامها المتعلقة بذلك تقول جهاد “والله أنا أحلامي كثيرة جدا، أحلم وزملائي في المبادرة بأن ننشر الكتابة باللغة النوبية. نحلم أن يتعلم كل النوبيين في مصر والسودان الكتابة كي يوثقوا لغتهم قبل أن تندثر. أحد أحلامي أيضا أن نسافر إلى القرى النوبية ونجلس مع كبار السنّ ونتعلم منهم بعض المفردات القديمة التي أصبحت الآن كلمات معرّبة تنطق ضمن الجمل النوبية لنوثقها”.

مؤسسو "نوبي كورو" يجتمعون أسبوعيا ليدرسوا الألحان ويتعلموا اللغة، ويرحبون بانضمام النوبيين وغير النوبيين إليهم

وفي أسوان يجلس المرشد السياحي السابق محمد صبحي (72 عاما)، وهو معلم لغة نوبية حاليا ومؤسس متحف نوبي، مع أطفال صغار في متحفه حيث يعلمهم اللغة النوبية عن طريق أداء أغنيات نوبية مشهورة.

ويوضح صبحي السبب في تراجع اللغة النوبية في ما مضى قائلا “حين كنا أطفالا في المدارس الابتدائية، كنا نتكلم العربية بصعوبة مثل الأجانب ‘الخواجات’، فكنا مصدرا للتندر والسخرية من المصريين الآخرين.. كنا نخطئ في نطق كلمات عربية فيسخرون منا.. هذه الحوادث جعلتنا نشعر بالنفور من لغتنا الأم ‘النوبية’.. مثلا أنا كنت ‘شاطر’ في الرياضيات لكن حين يسأل المدرس أخاف أن أجيب كي لا أخطئ في نطق بعض الكلمات وأذكّر مؤنثا أو أؤنث مذكر ‘يروحوا يضحكوا علي’، كل هذا سبب لي نوعا من الخوف. وهو ما دفعني حين تزوجت وكبر أطفالي إلى أن أمنعهم من تحدث النوبية منذ صغرهم كي لا يمروا بالصعاب نفسها التي عانيت منها”.

14