الموسيقى العراقية تقاوم الانفتاح الكلي للحفاظ على هويتها

بغداد - تعد الموسيقى واحدة من أكثر الفنون تعبيرا عن الهوية الثقافية العراقية، حيث تصطبغ بالحروب المتعاقبة على تاريخ البلد وما تحمله من أزمات اجتماعية واقتصادية، تصدح بها أصوات المغنين وتخرج على شكل نوتات حزينة متألمة تبعث في السامع الكثير من الشجن.
وهي ذاكرة لأناس أفنوا أعمارهم من أجل العراق، تخلّد الكثير من الحيوات المزدحمة بأصوات القصب وطيور الأهوار وحفيف الأشجار وخرير السواقي العذبة، إنها ذاكرة لا تختزن السعادة والفرح فحسب، بل تحمل أسرار الحزن المتراكم بين سطور ألحانها وأطوارها ومقاماتها، تلك السطور التي تطل بين جملها الموسيقية قعقعة السيوف ودخان الحروب ونعيُ الأمهات وثيابُ الأيام السود.
ومع التطور التقني والعولمة والانفتاح المتزايد نحو الآخر، بدأت الأغاني تفقد البعض من ملامح هويتها التي يمكنها أن تفصح عن الكثير من أسرار الحياة الثقافية، وتعبر عن مكنونات الذات الإنسانية بوضوح.
وللبحث في هذه المعضلة، سألت وكالة الأنباء العراقية عبر حوار صحافي أجراه صلاح حسن السيلاوي ثلة من المثقفين العراقيين علّهم يجيبون عن أسئلة من قبيل ما تتميز به الأغنية العراقية عن غيرها، وأهم الأغنيات التي أثرت في المثقفين؟ ولماذا؟ وهل يوافقون الرأي القائل بأن الأغنية في العراق نشأت مرتكزة على الإرث الشعري والفكري والموسيقي وأن المرحلة الحالية تشهد شذوذا عن تلك القاعدة؟
الموسيقى في العراق شهدت أوجها في سبعينات القرن الماضي ثم سارت تدريجيا نحو التراجع والانصهار أكثر في الموسيقى العربية والخليجية وحتى التركية والكردية
في هذا السياق، قال الشاعر عمر الدليمي إن الأغاني العراقية بما تمثله من تجارب الشعوب وتطلعاتها، تعد ركنا من أركان ثقافة العراقيين بالاتساق مع الأحداث التي مرت عليهم كما أنها تعبّر عن وجدانهم وعواطفهم. مبيناً أن الأغنية العراقية وبالنظر إلى عمق تاريخ بلاد ما بين النهرين وحضارتها شكلت وجدان البلاد عبر المئات من السنين بدءاً من الأدعية والتهاليل التي كانت تقام في معابد سومر وبابل وآشور ولغاية آخر مشحوف مخر عباب مياه الهور، وهو يترنم بأحد أطوار الجنوب الذي يمثل المشغل الأهم الذي صاغ الوجدان العراقي.
وأضاف الدليمي “أجد أن طابع الحزن الذي وسم الأغنية العراقية ناجم عن الأحداث التي تعرض لها الناس في هذه المنطقة من غزوات وحروب استهدفت حضارته وتسببت في خسائر كبيرة، فضلا عن جور السلطات المحلية ابتداءً من وصف الأدبيات البابلية للملك كلكامش بأنه الملك الذي لم يبقِ عذراء لأمها”.
وتابع “تشدني الأطوار الجنوبية ومنها المحمداوي والغافلي والصبي والنجفي والحياوي وغيرها، وأشير إلى أنني كتبت نصي الشعري الموسوم “جوجي” والمنشور في مجموعتي الشعرية “ما ينقص شاعرا” على مدار أيام ثلاث وأنا لا أسمع إلا طور الحياوي بعزف الفنان سامي نسيم.
ومرت الأغنية العراقية بالعديد من المراحل وأخذت العديد من الألوان بحسب البيئة التي يعيش فيها السكان، فالأغنية البغدادية امتازت بلغة وسطى ما بين العامية والفصحى وألوان المقام والمربّعات والبستات البغدادية. أما أغاني ومواويل الجنوب العراقي فتميّزت بتلك الأطوار الحزينة التي جسّدت واقع ما كابده المواطن من صعوبة الحياة. وهناك أيضا الأغاني البدوية التي مثّلت هوية المناطق الغربية من البلاد.
وقد قدمت كل هذه الأشكال فنا موسيقيا متميزا وأسماء لملحنين وكتاب ومغنين خُلِّدت في وجدان الشعب، لكن الواقع الحالي قد أفرز أشكالا هجينة لا يمكن أن نضعها في خانة الفن نتيجة التلقي المشوّه للتأثيرات الثقافية الوافدة من الشعوب الأخرى وهبوط مستوى المتعاطين مع فن الغناء في غياب المعايير واضمحلال دور المؤسسات الراعية كنقابة الفنانين وتفشي الجهل والثقافة الاستهلاكية بين الجيل الحالي بشكل عام.
ويرى الشاعر عبدالحسين بريسم أن للأغاني العراقية تاريخا طويلا مع الحياة والأجيال، وأن عامل الزمن لا يلغي تاريخها مثل أغاني القرن الماضي المستوفية للشروط الفنية، تلك التي ما زالت الأجيال الحالية تحبها كأغاني فؤاد سالم وقحطان العطار ورياض أحمد وغيرهم من عمالقة الغناء العراقي الأصيل التي لا تزال متداولة بين العراقيين على الرغم من الحداثة ومواقع التواصل الاجتماعي التي غيّرت كل شيء.

وأشار بريسم إلى أن الأغنية ذاكرة حية للشعوب بما فيها من الأناشيد الوطنية والدينية المنتمية لأحداث ووقائع وممثلة لمواجع إنسانية معينة ومستمدة من مقامات مهمة ومعروفة. ويضيف أن “الأطوار الشجية في جنوب العراق عنوان عريض للشجن وفيها ما يمكن تتبعه من أسرار إنسانية تنتمي لثقافة العراقيين بتنوعهم وتنوع حيواتهم، فمن منا لا يعرف العلامات المهمة في هذا المجال مثل المطرب سلمان المنكوب وعبادي العماري وقبلهم مسعود العمارتلي الذين يمثلون لونا مهما وعنوانا للطرب الأصيل”.
ويذهب بعض النقاد الفنيين للقول إن الموسيقى في العراق شهدت أوجها في سبعينات القرن الماضي ثم سارت تدريجيا نحو التراجع والانصهار أكثر في الموسيقى العربية والخليجية وحتى التركية والكردية، ورغم موجة الإقبال العربي على أداء أغنيات عراقية إلا أنها لا تكفي لاستعادة موقعها الريادي.
طابع الحزن الذي وسم الأغنية العراقية ناجم عن الأحداث التي تعرض لها الناس في هذه المنطقة من غزوات وحروب، فضلا عن جور السلطات المحلية
ويقول الشاعر عصام كاظم جري “لقد ذهب بعض المهتمين بالغناء، إلى أن فترة السبعينات هي ثورة غنائية والحقيقة أوسع من ذلك الحكم، لم تكن الأغنية العراقية وحدها مثيرة للجدل، بل كانت جميع الفنون مزدهرة كالسينما والمسرح والأزياء والشعر وانتشار المكتبات العامة والأشغال اليدوية وغيرها، وكان الفعل الثقافيّ في أوج مهابته، ولكن الأغنية هي الأقرب إلى الإنسان على اختلاف اتجاهاته”.
ويتابع أن “التراث العراقي بأغانيه الخالدة شغل مساحة محلية وعربية وعالمية واسعة، بدأت الأغنية متطورة بإحساسها وكلماتها ولحنها وموسيقاها، وكل شيء كان على قدر عال من المسؤولية، الكلمات، خامة الصوت، أسلوب التلحين، الأستوديو، الملابس، والديكورات والإيقاع والنوطة الموسيقية، والمقدمة كلها عوامل متآصره تتسع معا.
وأشار كاظم جري إلى أن الأغنية العراقية تراجعت الآن تراجعا فاضحاً، في مستواها الفني والأدائي، قياسا بما كانت عليه سابقا، حتى صارت عبارة عن إيقاعات سريعة راقصة وكلمات مثيرة للسخرية، فضلا عن تسويق الإغراءات بالجسد، وإظهار المرأة بشكل لا يرفع من قيمتها، ولعل الانحدار الذي تعيشه الأغنية العراقية يعود إلى غياب المسؤولية الفنيّة، وتقصير المنظومة المؤسساتيّة برمتها بدءا من نقابة الفنانين ووزارة الثقافة، مرورا بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتربية، إلى جانب غياب الدقة في الاختبارات الرصينة والبعيدة عن الإعلام. إن كثيرا من المطربين الشباب اليوم أساؤوا لتاريخ الأغنية العراقية الأصيلة من خلال استخدامهم الكلمة الممجوجة. ولم يقف الأمر عند هذا الشأن، ففي الآونة الأخيرة تغير واقع الأغنية العراقية في اللحن والإيقاع، إذ دخلت بعض الألحان الغربية كالتركية والخراسانيّة القديمة وغيرها ما أفقدها محليتها العراقية أولا”.
وتابع أن “الغناء السبعيني هو الأيقونة اللامعة لكل العقود اللاحقة، ولا نبخس المطربين في الخمسينات والستينات حقهم فلهم حضور فعّال إلى غاية الآن، لقد ظهرت مدارس تلحين عريقة كالقرغولية ومدرسة محمد جواد أموري وجعفر الخفاف وغيرها. إن هؤلاء الملحنين تأثروا بأساتذتهم الملحنين الذين قدموا للغناء كل حياتهم. وظلت ألحان القرغولي وأموري هي الأكثر انتشارا بأصوات المطربين. وربما هذا هو جوهر الخلود للأغنية العراقية”.