الموحدون الدروز بلبنان في مواجهة نوبات الفدرلة المتكررة

الدعوات إلى نظام فيدرالي في لبنان ليست بالجديدة، بيد أن إحياءها على يد التيار الوطني الحر ولد شعورا مضاعفا بالخوف لدى المناوئين لهذا الطرح لاسيما الطائفة الدرزية التي تعي بأن الأجواء الداخلية والإقليمية والدولية مهيأة أكثر من أي وقت مضى لتمرير مثل هذه “الطروحات الهدامة”.
طفت على السطح مؤخرا دعوات لقيادات من المسيحيين الموارنة تنشد إقامة نظام فيدرالي كحل لإنهاء الأزمة المركبة التي يعيش على وقعها لبنان، ولئن بدا رفض المسلمين بشقيهم الشيعي والسني مفهوما إلا أن الملفت هو موقف طائفة الموحدين الدروز الذين تصدروا جبهة “الممانعة” لهذا الطرح القديم الجديد.
وأطلق رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في الآونة الأخيرة سلسلة تصريحات ومواقف تصب في خانة إحياء الطرح الفيدرالي من قبيل الدعوة إلى لا مركزية إدارية ومالية، ما أثار ردود فعل مستنكرة ومستهجنة من قبل عدة أطراف ومكونات كان أشدها وقعا تلك التي صدرت عن زعامات روحية وسياسية من الطائفة الدرزية الموحدة، التي وصفت تلك التصريحات بالعمالة والأنانية.
وقال شيخ عقل الموحدين الدروز نعيم حسن إن “لبنان اليوم يترنح، والمطلوب مبادرات لا أنانيات”، داعيا “المسؤولين إلى الكف عن استخدام الدولة اللبنانية لمصالح فئوية وتصفية حسابات”.
وصرح الزعيم الدرزي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط “لست أدري كيف أن البعض لا يزال يفكر بالفيدرالية أو ما أشبه، ويعود إلى مفهوم التقسيم وهو مشروع انتحاري للجميع دون استثناء وكم كلف لبنان من دمار وخراب”، مشددا “لا لتلك الأصوات العميلة التي صدرت في العلن أو التي تعمل في الخفاء وتنظر للفيدرالية بحجج مختلفة. لا لحرب الآخرين على أرض لبنان”.
برزت الدعوات إلى الفيدرالية في لبنان الحديث أساسا مع الحرب الأهلية (1975 – 1990) من طرف بعض الأصوات المسيحية المسكونة بهاجس الانحسار الجغرافي والديمغرافي والخشية من ضمور دور الطائفة السياسي والاقتصادي والحضاري أمام المد الإسلامي.
ولئن رفض جانب من المسيحيين حينها تلك الطروحات وأكدوا على تمسكهم بمركزية الدولة وهو ما ترجمه قبولهم باتفاق الطائف 1989 الذي كان بمثابة عقد اجتماعي جديد كرس “الميثاق الوطني” الذي جرى التوصل إليه في العام 1948، بيد أن تلك الدعوات ما فتئت تطل برأسها بين حين وآخر مثل النوبات، ناجمة تارة عن شعور بالخوف من متغيرات قد تعصف بالوجود المسيحي في لبنان، وتارة أخرى عن رغبة في “ابتزاز” الأطراف المقابلة لتحصيل بعض المكاسب.
لبنان يعيش أشبه ما يكون بالفيدرالية حيث أن لكل طائفة داخل هذا البلد نواميسها وقوانينها الخاصة ومحاكمها الشرعية
وتعكس إعادة التيار الوطني الحر النفخ مجددا في رماد الفدرلة هذه المرة كلا الشعورين، فالحزب الماروني يخشى من انهيار الثقل المسيحي في ضوء الأزمتين السياسية والاقتصادية المستعصيتين اللتين يشهدهما لبنان والمترافقتين مع متغيرات إقليمية ودولية عاصفة، زد على ذلك تنامي نفوذ حزب الله الشيعي الذي بات المتحكم في القرار اللبناني. ولا تخلو نوايا التيار الوطني الحر ورئيسه أيضا من نزوات سلطوية، حيث يرنو إلى الاستفراد بزعامة الطائفة المسيحية ضمن أطر جديدة، في ظل إحساس متعاظم بأن لبنان يعاني في جوهره من أزمة نظام، وما المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تنخره إلا نتاج لتلك الأزمة.
ويظهر الموحدون الدروز مخاوف من إمكانية نجاح دعوات الفدرلة في الوصول إلى غاياتها هذه المرة، هذه الهواجس لا تبدو مفهومة لدى دعاة ومؤيدي هذه الطروحات على غرار الأمين العام للمؤتمر الدائم للفيدرالية الفرد رياشي الذي انتقد بشدة مواقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط قائلا “إننا ومن حرصنا على الشعب الدرزي الأبي والعظيم، هؤلاء الأشاوس الذين سطرت بطولاتهم التاريخ نقول لك يا وليد جنبلاط ‘لازم تراجع حساباتك’ وإذا كان الخيار بينك وبين طائفة ‘الموحدون الدروز’ العريقة، فتأكد أن الاختيار سيكون نحو صون ‘كرامة’ هذه الطائفة ‘المحترمة’ والغنية ‘بالحكماء’ الذين يمكن أن يمثلونها خير تمثيل ويضمنون دورها المفصلي والتاريخي… لذلك نكرر ونقول لك: إن مصلحة ‘الموحدون الدروز’ فوق كل اعتبار“.
ويعيش لبنان في واقع الأمر أشبه ما يكون بالفيدرالية حيث أن لكل طائفة داخل هذا البلد نواميسها وقوانينها الخاصة ومحاكمها الشرعية. وتلعب الجغرافيا دورا بارزا في تكريس هذا النوع من التقسيم، من خلال تمركز الطوائف في أطر مكانية محددة هي أشبه ما يكون بكانتونات رغم بعض التداخلات حيث يتركز المسيحيون في شرق بيروت وضواحيها وشمال جبل لبنان وزحلة وجزين، فيما توجد الغالبية من الطائفة السنية في غرب بيروت ومحافظة طرابلس وصيدا وأيضا في عكار والبقاع، أما الشيعة فيستوطنون الضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان ومنطقة الهرمل، ويتخذ الدروز من جنوب جبل لبنان وقضاء حاصبيا موطنا لهم.

هذا التقسيم يمتد إلى النظام السياسي نفسه الذي تنصهر فيه هذه الطوائف، فيستند هذا النظام على محاصصة طائفية ليس فقط في المناصب العليا للدولة – حيث يتولى الموارنة رئاسة الجمهورية فيما رئاسة البرلمان من حصة الشيعة، ورئاسة مجلس الوزراء بيد السنة – بل إنها تشمل حتى الرتب الأدنى في السلم الوظيفي داخل الدولة. تنظر بعض المكونات والطوائف لاسيما الطائفة الدرزية إلى هذه “الفيدرالية” بنوع من القبول والرضى ليس فقط لجهة أنها نجحت في التكيف والتعايش معها، بل لأنها أيضا حافظت من خلالها على دورها السياسي والاقتصادي والحضاري على الساحة اللبنانية، ومكنتها في الآن ذاته من الحفاظ على خصوصيتها المتفردة كطائفة منغلقة على نفسها اجتماعيا ودينيا.
ويقدر عدد الدروز في لبنان بنحو 400 ألف شخص ينتشرون في مناطق جبل لبنان ومحافظة النبطية على غرار حاصبيا وراشيا والشوف وعاليه ومرجعيون، حيث يوجد أيضا حضور مسيحي وازن.
ولطالما شكل ذلك التداخل الجغرافي مصدر توتر واحتكاك بين الجانبين في محطات تاريخية مفصلية عايشها لبنان، أبرزها في العام 1860 حينما اندلعت اضطرابات بين المسيحيين من جهة والمسلمين والدروز من جهة ثانية عرفت حينها بثورة الفلاحين الموارنة، وأيضا خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في سبعينات القرن الماضي، لاسيما في العام 1983 حينما قام الدروز المدعومون من قبل منظمة التحرير الفلسطينية واليسار اللبناني بحملة تهجير للمسيحيين من قراهم في جبل لبنان، والتي لا تزال جراحها لم تندمل بعد رغم المصالحة التاريخية التي رعاها البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير في العام 2000.
ويعتبر الدروز أن محاولة بعض المسيحيين النبش مجددا في مشاريع وصيغ حكم جديدة تحت عناوين براقة لا تخلو من شبهات ستؤدي إلى استثارة الغرائز مجددا والنزعات الطائفية والمذهبية، الأمر الذي لن يهدد كيانهم فقط بل أيضا لبنان ككل، وقد يعيد البلد إلى مربع العنف.