المواد النبيلة

نُسب إلى وزير التعليم العالي والبحث العلمي في تونس وصفُه العلوم التي تدرس في الجامعة بالمواد النبيلة، ما أثار سخطا عارما، ليس في الوسط الأكاديمي وحده، ولا في الوسط الثقافي فقط، بل في الوسط الطالبي والمدرسي أيضا. فقد رأوا كلهم في ذلك الوصف تمييزا لمادة دون أخرى، واستنقاصا للآداب والتاريخ والفلسفة والعلوم الإنسانية بعامة، بل ثمة من عدّ تصريحه ذاك تنكرا للأدب والفكر والثقافة والفنون، لأن المجتمع السليم لا يقوم على العلوم وحدها، وإنما يقوم على المعرفة بشتى مكوّناتها، وفي طليعتها الأدب الذي أساسه اللغة، التي تنعدم المعارف كلها في غياب الإمساك بأصولها.
وبصرف النظر عن تلك الصفة التي يستعملها الفرنسيون عادة لتمييز سقط اللحم من قطع الذبيحة المحببة، فإن تصريح السيد الوزير يلخص ما استقر في أذهان الناس منذ عشرات السنين بألا مستقبل لأبنائهم إلا بالتفوق في مواد العلوم، للحصول على وظائف ذات دخل مريح تضمن لهم عيشة مرفهة، لأن طلب العلم لم يعد مقصورا لذاته منذ عقود، بل صار وسيلة لتحقيق المركز الاجتماعي المرموق والربح المادي الوفير. وإذا كانت رغبة الطلاب وأوليائهم مشروعة، فذلك لا يبرر التباهي بأولوية العلوم في بلد لا يرى في الأخذ بأسبابها سوى سدّ شغور وشغل مناصب، وهو الذي لا يخصص للبحث العلمي إلا نسبة ضئيلة جدّا؛ كما لا يبرر بَخس طلاب آخرين حقهم في دراسة الآداب على أيدي مدرّسين أكْفاء، لا أكِفّاء (جمع كفيف، مع احترامنا للمكفوفين)، ذلك أن تدريس تلك المواد تدنّى بشكل مخجل، مثلما تدنى مستوى الموجَّهين إليها، وهم في الغالب من ضعاف التحصيل.
وحسبنا أن نلقي نظرة على نسب النجاح في الأعوام الثلاثة الأخيرة كي نقف على التهميش المتعمّد الذي سارت عليه الحكومات المتعاقبة، حيث بلغت نسبة الناجحين في شهادة البكالوريا في شعبة الآداب 17 بالمئة سنة 2016، و13 بالمئة سنة 2017، و12.8 بالمئة هذه السنة.
صحيح أن بعض البلدان المتقدمة، كفرنسا مثلا، يشهد تزايد الإقبال على شعبة العلوم، للغايات نفسها، بعد أن انحسرت فرص الشغل أمام أصحاب التخصص الأدبي، ولكن المناهج التعليمية والاختبارات الكتابية والشفاهية تفرض الأدب على طلبة شعبة العلوم كمادة لا يمكن التغاضي عنها بأي وجه من الوجوه، ويتواصل تدريسها حتى في الجامعات والمعاهد الاقتصادية والتجارية العليا.
فلا عجب بعدئذ أن نجد الأطباء والمهندسين والمخترعين وقادة السفن والطائرات ملمين بلغة بني قومهم إلماما يسمح لهم أحيانا بوضع المصنفات، لا العلمية وحدها، بل الأدبية والفكرية أيضا.