المهاجر المعاصر الفقير والمحتقر هو أوليسيس الجديد

إن التعامل مع موجات الهجرة التي تتقدم باتجاه أوروبا في السنوات الأخيرة هو ما يشبه التاريخ القديم الذي يعيد نفسه، والذي ينكره الكثيرون، ووحدهم الشعراء يعودون إلى الأساطير الأولى ليربطوها بواقع اليوم، ويذكرون مهاجري الأمس من الغربيين بمهاجري اليوم من الهاربين، ويرسمون بجرأة حقائق البشر المشينة ويواجهونهم بها.
الميثولوجيا اليونانية أرادت أن تكون القصة سابقة لعصرها، قصة “يوروبا” أو “عروبة”، الفتاة الفينيقية، ابنة أجينور ملك صور، التي خطفها الإله زيوس متنكرا في زي ثور أبيض، وهو ما فتح المجال لتعدد النظريات بقدر ما يمكن أن يجنح إليه الخيال، على حد سواء، في الأسطورة أو ما يتفتق عنه العقل من اعتقادات وفرضيات، بيد أن الاسم ما زال يخال لغزا محيرا.
فهناك علماء اتبعوا المنهج اللغوي، وانتهوا إلى القول إن اسم أوروبا هو اسم وصفي، ويرجعون إلى اللغة اليونانية القديمة لتحليل جذورها، وذلك بجمع كلمتي eurys التي تعني “واسع”، وكلمة ops بمعنى “الوجه” أو “العن”، بغية الوصول إلى معنى “النظر الواسع”، كوصف لخط الساحل العريض لأوروبا كما كان يراه البحارة اليونانيون من سفنهم أثناء رحلاتهم المتكررة من ساحل إيجه إلى أعمدة هرقل.
بينما رأى علماء آخرون أن أصل اسم أوروبا موجود في اللغة الأكادية السامية التي كانت شائعة في بلاد ما بين النهرين القديمة، ويشيرون إلى أن الكلمة الأكادية erebu تعني “غروب الشمس”، والسبب، من منظور بلاد ما بين النهرين، أن الشمس تغيب في الغرب، فوق أوروبا، ويستشهدون بالكلمة الأكادية لشروق الشمس asu التي يعتقدون أن اسم آسيا مشتق منها. فمن منظور شعوب بلاد ما بين النهرين، كانت الشمس تشرق من آسيا.
والحال، نحن ما زلنا أمام اسم يؤجج تخيلنا ويدفعنا إلى البحث عن فحواه ودلالته، حتى لو كلفنا ذلك عبور البحر على متن زورق مطاطي، وليس على ظهر ثور فتي كما فعلت سالفتنا البعيدة. ويبدو أن الشعراء، برهافة النفس وبذلك الهوس الذي لطالما دفعهم إلى التعمق في الأشياء وسبر أغوارها، هم الوحيدون الذين تمكنوا، على مختلف مشاربهم، أن يمنحوا هذه الرواية دفقا من الإلهام تتجاوز فيه الشاعرية حدود الالتباس وتنقلنا إلى عوالم أبعد من المجاز، لتخلق منه، من بين الأشياء الأخرى، رمزا معاصرا لمأساة باتت اليوم تشغل العالم برمته، أي الهجرة الكثيفة من دول العالم الثالث إلى القارة العجوز.
قصائد الهجرات
كتب العديد من الشعراء قصائد حاولوا من خلالها ربط هذه الأسطورة بموضوع معاصر، مثل قصيدة “قصة أوروبية: أصل الابتسامة الساخرة” لجاي فوكس الواردة في هذا المقال المترجم، وقصيدة الشاعر السوري، المولع بالأساطير، نوري الجراح، الذي يتوجه مباشرة إلى الإغريق متسائلا في “أنشودة أوروبا”، كيف تخيلوا، بل كيف تجرؤوا على الخيال بأن زيوس، ذلك الذي ابتلع زوجته ميتي خشية أن تنجب له ابنا أعلى منزلة منه، أن يغري أميرة من صور، ويشير عليهم، حتى بعد قرون، أن يلجؤوا إلى لقيانوس السميساطي (سميساط، سورية 125 – 180 ميلادية)، ألم يكن هو القائل لو نتجاهل الأسطورة الإغريقية الدينية لما بقي للإغريق شيء واحد يفتخرون به ولماتوا جوعا.
وجاء في قصيدة “أنشودة أوروبا”: “ما الذي جعل الإغريق يتخيلون أن ثورا / أعرج يمكنه أن يغري أميرة من صور، لأبرح برفقته مطلع الشمس إلى أرض/ الظلمات، وبباب قصر أبي يركع البحر، وتنزل السماء لتملأ الحدائق بالأنجم والكواكب. يا للخيال الإغريقي الجامح / حتى الحداد الذي ولد في ميلوس/ ولم يسمع بجزيرة اسمها ميكونوس/ لن يقبل بهذه الفكرة../ إيسوبوس أيها البارع في تلفيق الحكايات/ ارو لنا عن أميرة في الشرق حكاية أخرى! / ولو اضطررت إلى مثال / عليك بأبوليوس وجحشه الذهبي / ولو أردت شيئا مجربا حقا، ويمكن له أن يبقى في ذاكرة الإغريق/ وأسلافهم الفينيقيين / عليك بلقيانوس السميساطي فهو سيد الكلمات”.
أسئلة ربما نجد بعض أجوبتها في مقال للكاتب الإيطالي صامويل ريت سولي، المختص في الأدب المتعلق برحلات الأمل المعاصرة والقديمة في البحر الأبيض المتوسط، والتي غالبا ما انتهت، وما زالت، بكوارث مأساوية.
أدب الهجرات من خلال النصوص الشعرية إذا ما أردنا تحليل الشعر المهاجر حول رحلات الأمل، في النصوص الواردة هنا، يمكننا تحديد ظاهرة أدبية تستجيب مباشرة للوقائع في البحر الأبيض المتوسط. فنرى أن هذه الوقائع أصبحت الموضوعات الرئيسية التي يبنى عليها الخطاب الشعري من خلال كتابة قصيدة حضرية تهدف إلى إعطاء مغزى للواقع الراهن.
وبالفعل، تمكنت محتويات هذه القصائد من تحديد الخطوط العريضة لسرد الهجرات في البحر الأبيض المتوسط، التي تركز وتتوقف عند المراحل الفردية والجوانب واللحظات التي تكون الرحلة، مما يجعل الموضوعات الشعرية متكررة. بهذا المعنى، يبدو أن هناك، من قبل المؤلفين، العزم على جعل القصائد الشعرية يوميات سفر، تلخص المراحل الرئيسية، سواء المادية أو تلك الكامنة في دواخلهم، للمسار المأساوي لرحلات الأمل. وكما يقول دوناتو دي بوتشه، فإن البحر المثار هنا يصبح أيضا “روح الشعراء”، وقصائدهم “أطوافا”.
من وجهات نظر مختلفة وأشكال لغوية متعددة، تم تحديد حقول الموضوعات التي تتوافق مع تلك اللحظات البارزة والأكثر رمزية في تجربة الهجرة، بما في ذلك اليأس كسبب للهروب، والمهرب كرمز لجريمة الاتجار البشري. بينما جزيرة لامبيدوزا كمكان فاصل بين عالمين، المنطلق، ومركز استقبال، أو بالأحرى “معسكر اعتقال حديث”، عدا عن كونه رمز الرفض، وغرق المراكب، وفقدان الحياة في البحر، إلى جانب وطأة الألم والمعاناة التي تميزهم.
من خلال استعادة الموضوعات الموجودة في المادة الشعرية، من الممكن تتبع القيمة السردية والاجتماعية للأحداث التي يذكرها المؤلفون، وبالتالي استكشاف رحلات الأمل من منظور، بالتوازي مع التحليل النقدي لمراحل الهجرة، يصف جوانبها بشكل أعمق وأكثر إنسانية. مقارنة بسرد الوقائع المأساوية، ينجح الشعر في تقديم تفسير قادر على تمثيل الإنسانية في حالة الهجرة التي لا مفر منها، مما يوحي بإدراك متواصل للهجرات المعاصرة من خلال نظرة إلى الماضي.
النموذج الأسطوري للمهاجر
تميل القصيدة الشعرية إلى إفادة مهاجرين يتجاوزون السياق التاريخي والجغرافي، وينفتحون على تأمل وجودي يوسع النظرة إلى الإنسانية التي هي بطبيعتها مهاجرة. في هذا الصدد، نلاحظ كيف أن العديد من القصائد التي تم اختبارها تستحضر قصصا وشخصيات من الأساطير، مما يؤكد كيف أن حركة الهجرة كانت دائما بعدا وجوديا للإنسان نفسه.
“هيكوبا توقف عن البكاء” لسيباستيان أ. باتانِهْ فرو، “أنتيغون في أبوليا” لبريندا بورسر، ونجد المهرب الذي يقارَن ﺒ”كارون”، وكذلك شخصية ثيتيس، الحوريات السماوية، لإينيس، طالوس، ولاوكون، جميعها تكرر وتمثل هذا الاتجاه.
ونشير إلى رمزية قصيدة “قصة أوروبية: أصل الابتسامة الساخرة” لجاي فوكس، حيث يعود نفس تاريخ أوروبا وأساطيرها، فيما يتعلق بالهجرات المعاصرة، لخلق تجانس بن العصور القديمة الأسطورية والحاضر.
الشعراء برهافة النفس وهوس سبر الأغوار تمكنوا بجرأة من أن يمنحوا روايات الأساطير والهجرات دفقا من الإلهام
وتذكر الأسطورة اليونانية عن اختطاف الفتاة أوروبا على يد زيوس، “الثور الجاث”، برؤية القارة التي تعود أصولها إلى أفريقيا وهي “فرع من آسيا” و”حفيدة ليبيا”.
إعادة إصدار الأسطورة التي تصف التاريخ الحالي لمنطقة البحر الأبيض المتوسط بأنه تدفق للشعوب نحو أوروبا “المغلقة” الآن أكثر من أي وقت مضى، “مذعورة من وصول الآخر”، “حارسة الضفاف”. وهكذا تستمر تحركات الناس “بعد آلاف السنين” في إثارة الصراعات والمخاوف، ويعود المهاجر إلى كونه “الآخر”، و”المهاجر غير الشرعي القديم”.
يقول جاي فوكس في قصيدته “لقد اختطفها الثور الأبيض الفتي الجاث / الفتاة اللطيفة / التي انحنت لتداعب خطم الحيوان الوديع / ابنة ثيتيس وأوقيانوس/ شقيقة آسيا، حفيدة ليبيا. بلا جدوى كانت الصرخات الملتاعة / ولا الإيماءات/ المحمومة طلبا للعون/ بسرعة البرق/ انساب على الأمواج / من وسط البحر. جرها الثور العظيم / إلى جزيرة كريت / وهناك/ على هيئة نسر/ نال من عفتها / شقيقة آسيا، الحورية اللطيفة / يا له من فراق لا يطاق / كان هناك (لاحقا) من زعم نسبها / للغرب القصي. يوروبا حبيسة في جزيرتها / أنثى بالغة / والدة ملوك المستقبل وقضاة العالم السفلي / مذعورة من وصول / “الآخر”، ربما أناس من سردينيا / من الغزوات المخيفة / توسلت إلى هيفايستوس ليصوغ لها / عبدا أمينا من البرونز / لحراسة الضفاف / ومن المعدن ولِدَ طالوس/ السلف من سلالة الآلات/ الجد الأكبر للمتمرد غولم/ عملاق من الصلصال./ طالوس، المتوهج/ كان يهاجم من تسوله نفسه/ الدنو من الشاطئ/ يمد ذراعه / ولما يشدهم إلى صدره يحرقهم / ويلوي فمه من الألم. هؤلاء المهاجرون غير الشرعيين القدامى / ترتسم على الشفاه ضحكة ساخرة / مرت آلاف السنين/ أعيد تكوينهم مرات لا تحصى / أراضي آسيا وأوروبا وليبيا”.
ويتابع في قصيدته “الآن الرادار Elm – 2226 / هو طالوس المستجد / بوفرة يطرَدون / أبناء آسيا وليبيا / ودون أثر لابتسامة / يودِعونهم السجون. يتمردون معا / نسل أوروبا اليوم / ومن آسيا وليبيا / على درب الأشْتِيَة / التي تفوح بالكاليكانثوس / وبالرِبَاع المحتملة / وبالعوالم الجديدة والقديمة / متخطيا بجرأة وفخر / أعمدة هرقل للبحث / عن قصة ليست من تلك القصص / النتنة المعتادة المتوارثة عبر آلاف السنين”.
بين الأساطير والحاضر، أصبحت الهجرات رحلات رجال شجعان ويائسين، في إشارة إلى النموذج الأصلي التأسيسي للثقافة الغربية الكلاسيكية، والتي، بالنسبة إليها، تمثل الرحلة التجربة التعليمية بامتياز. رمزية هي شخصية أوليسيس، الشخصية الأسطورية للمسافر والأجنبي، التي تذكرها تشامبرز كمرجع مؤسس للثقافة الغربية وبالتالي كنموذج للتاريخ القادم: إذا كان أوليسيس هو الشخصية الأسطورية للمسافر والأجنبي الذي تبدأ معه تلك القصة (الأوروبية)، فلا تزال هذه القصة مستمرة مع شخصية المسافر والأجنبي.
بين الأساطير والحاضر، أصبحت الهجرات رحلات رجال شجعان ويائسين، في إشارة إلى النموذج الأصلي التأسيسي للثقافة الغربية
من خلال التناقض الخطابي بين المهاجر المعاصر، الفقير والمحتقر، والطابع الأسطوري لأوليسيس، البطل الكوني، ينتجه الشعر كتغير في المنظور وفي تصور الهجرة. إن المهاجر غير الشرعي، وهو استعارة للبطل المعاصر، ينطلق ويجسد رحلة الذاكرة والرغبة نحو وطن باسم وعالم بلا حدود.
تم التعبير عن هذا المفهوم بشكل جيد في قصيدة “مخيم اللاجئن” التي كتبها ف. فيراريسو والتي يتم فيها تمثيل المهاجر غير الشرعي على أنه أوليسيس المعاصر.
يقول فيراريسو “أوليسيس مجهول الاسم الذي ليس لديه / إيثاكا أو زوجة / يطلب حق اللجوء / ويريد أن يذهب إلى البحر، وإذا نظرت إليه / ستجده / مضاعفا في كل الوجوه / مليونان أو ستة ملايين مهاجر غير شرعي”.
كما يستخدم الشعراء شخصية أوليسيس لتذكر حالة عالمية لا تتعلق فقط بالمهاجرين، بل ينظر إليها الشاعر نفسه على أنها حالة وجودية من الغرابة، كلجوء من قبح العالم المحيط ووحشيته.
كما يتذكر دوناتو دي بوتشِهْ، في مقدمة أنطولوجيا “مهاجرون غير شرعيين”، فإن المهاجر غير الشرعي هو أيضا الشاعر “الذي يكافح ضد تناقضاته واختلافاته، ومصيره وشبكة علاقاته الخاصة مع الآخرين ومع العالم”، العالم الذي يشعر منه بأنه مجبر على النأي بنفسه، ولذا فهو يعتر نفسه منفيا منه.
رحلات الأمل

يتطابق استحضار الشعر الغنائي للماضي التاريخي القريب بالتوازي مع الماضي الملحمي البعيد. تروى قصص الرحلات البحرية، والتي تظهر كيف كانت الهجرات دائما، عبر التاريخ، تتسم بالمعاناة والظلم.
في هذا الصدد، تذكر كلمات تشامبرز كيف يظهر ذلك التأمل في تاريخ الهجرة. إن مهاجري اليوم، رغم أنهم غالبا ما يبعثون على الخشية، ومحتقرون، وعرضة للعنصرية، هم تذكير تاريخي بحقيقة أن البحر الأبيض المتوسط ، الذي يعتبر أصل أوروبا والغرب، هو دائما جزء من مكان آخر، تماما مثل قصصها وثقافاتها وشعوبها، بما في ذلك 27 مليون إيطالي الذين هجروا باستمرار شواطئهم إلى أماكن أخرى.
هنا مرة أخرى، يظهر اهتمام خاص بمنطقة البحر الأبيض المتوسط كمساحة تمثيلية، تتجاوز إحداثيات الزمان والمكان المعاصرَيْن.
باختصار، “النزوح، الهجرة، التواجد في المنفى والتشتت، ليست قضية حديثة، لأنها تؤثر على كامل النطاق الزمني للحداثة، من لحظة اكتشاف العالم الجديد إلى وصول المراكب على السواحل الشمالية للبحر المتوسط في أيامنا هذه”.
يتجسد الفكر الشعري في تذكر الهجرة الإيطالية، على وجه الخصوص، باعتبارها لحظة مقارنة أساسية لفهم نقدي لرحلات الأمل. تهدف الإشارة المستمرة إلى الهجرة الإيطالية إلى التأكيد على فقدان الذاكرة التاريخية للشعب الإيطالي، الذي ترك أرضه لقرن كامل بحثا عن آفاق أفضل للحياة.
قبل أن تصبح إيطاليا بوابة لأوروبا، كان “المهاجرون غير الشرعيين” الذين هربوا هم بالضبط الإيطاليون، الذين كانت رحلاتهم أيضا رحلات أمل، والذين، كما يتذكر جان أنطونيو ستيلا، كانوا “يخزنون في الدرجة الثالثة”، في ظروف مروعة من “البؤس والتدهور الصحي والصحي والمعنوي”. “هجرة جماعية” حقيقية شهدت من عام 1876 إلى عام 1915 خروج مهاجرين إيطالين إلى البحر على متن قوارب عرفت آنذاك بأنها سفن الموت، والتي على الرغم من أنها تتسع لـ700 شخص، كانت تبحر وعلى متنها أكثر من 1000 شخص.
كانت حالة سفينة ماتيو بووتسو رمزية، في عام 1884، “تم رفضها من قبل سلطات ميناء أوروغواي حيث تفشى وباء أثناء الرحلة أدى إلى موت وإصابة 1333 شخصا يائسا بالعدوى”. كان هذا النزوح، الذي يشبه الهجرة الحالية، قد ترافق مع قصائد شعرية، مثل قصيدة “المهاجرون” التي كتبها إدموندو دي أميتشيس في عام 1882، حيث يبدو وصف ظروف الرحلة آنيا بشكل هائل.
كتب دي أميتشيس “مكدسون هناك مثل الخيول / في جليد مقدمة السفينة الواجفة من الرياح / يهاجرون إلى أراضٍ مجهولة وبعيدة / رَثون وسقَماء / يعبرون البحار للبحث عن لقمة العيش. مخدوعون من متاجِر أفاك / يمضون، محط هزء للأجنبي، دواب للحمل، أقنان محتقرون، لحما للمقبرة / يروحون ليرتزقوا الكربة في ضفاف/ مجهولة”.
رحلات الأمل، تلك التي قام بها المهاجرون الإيطاليون بأعداد كبيرة دون أن يملكوا أدنى يقين من وصولهم إلى وجهتهم، وتعرضوا هناك لحالات عديدة لغرق السفن، مثل حادثة يوتوبيا في عام 1891 بالقرب من ميناء جبل طارق حيث مات 576 مهاجرا إيطاليا، وكذلك في حادثة غرق سفينة بورغونيي في عام 1898 بالقرب من مقاطعة نيو سكوتلاند الكندية، و550 قضوا حتفهم في غرق سفينة سريوس في عام 1906 على صخور قرطاجنة في جنوب شرق إسبانيا، وأيضا الأميرة مافالدا، السفينة الرائدة في الأسطول التجاري الإيطالي التي غرقت في 26 أكتوبر 1927 ، “غرقت بحمولتها من الفقراء على بعد 90 ميلا من ريو دي جانرو، مما تسبب في مقتل 657 شخصا”.
القصيدة الشعرية تميل إلى إفادة مهاجرين يتجاوزون السياق التاريخي والجغرافي، وينفتحون على تأمل وجودي للإنسانية
وهكذا تعبر القصيدة عن الوعي بأن “مهاجر الأمس، الذي غادر جنوة ليهبط في بوينس آيرس، ومهاجر اليوم، الذي يغادر دكا (عاصمة بنغلاديش) ليجد نفسه متروكا لمصيره على أحد شواطئ مقاطعة بوليا في جنوب إيطاليا، منفصلان في الزمن لكنهما متحِدَانِ في التاريخ نفسه”. كما تؤكد ذلك في قصيدة “سقط التاريخ” حيث يعبر فيها ف. فيراريسو عن نفسه بالكلمات التالية: “الحرب هي اليوم”، على الرغم من أن “كل شيء كان بالأمس”، للتأكيد على كيف أن التاريخ الذي انعقدت أواصره في البحر الأبيض المتوسط، مآله الضياع.
المنسي هو هيكلها ونتائج تلك الرحلات والهجرات العديدة التي حدثت على مر الزمن بحيث أن ما يحدث اليوم قد حدث بالفعل، وعلى عكس ضمير البشر، سجله التاريخ.
وكتب فيراريسو “التاريخ يحكي بوضوح متى وماذا / حدث ويحدث. يحدث التاريخ في جميع الأوقات”.
من هذا المنظور، يصبح المهاجرون أبطال جميع العصور، “إخواننا المهاجرون” كما هو الحال في قصيدة لوتشيا غويدوريتي حيث نقرأ “نحن الذين كنا أنتم / أنتم من كنا نحن”، وهي صيغة موالفة لظروف جماعية. تصبح المجموعات السكانية مختلِفة اللغة الجغرافية الأصلية للتاريخ البيولوجي، وهي رواسب كل مجموعة عرقية مرت وهي موجودة الآن في دمائنا.
وللمفارقة، الحالة الجماعية التي تكشف عن ظلم الهجرة، بقيت على حالها بمرور الوقت أيضا، كما في الحالة الإيطالية، بسبب قصر النظر، القائم على إنكار ذاكرة ماضي الهجرة. في هذا الصدد، تعتبر كلمات آنا أنتوليزِيْ في خاتمة مختارات “المهاجرون السريون” مهمة، التي تؤكد الرغبة الشعرية لضمان أن تستعيد إيطاليا هذا الوعي، والعودة لكي تلتحم بالتقاليد المؤلمة للأجداد المهاجرين، واستئناف وإعادة تقييم ذاكرتهم الباهتة، وبالتالي تعديل، إن أمكن، غطرسة أولئك الذين، من بين الآباء المنسيين، الذين ينكرون للمهاجر غير الشرعي – الآن وهنا – ما تم إنكاره لهم، في مكان آخر، ضمن إطار دراماتيكي واستئلاف مختطف.
حاشية على الترجمة
بعد أن فرغت من ترجمة مقالة صاموئيل ريت سولي، وجدتني أعود إلى شاعر قصيدة نوري الجراح “أنشودة أوروبا”، لأستعيد معه واحدة من أكثر قصائده شيوعا وترجمة إلى لغات المتوسط، وأعني بها قصيدته “رسائل أوديسيوس” المكتوبة سنة 1992 ، والمنشورة في مختارات أعدها الناقد خلدون الشمعة وصدرت في القاهرة سنة 2009، فهي في نظري التمثيل الأنضج لصوت الشاعر في المنفى، والتعبير الشعري عن المصير التراجيدي للمنفي، فهو أوديسيوس الذي لن يعود أبدا.
كتب الجراح “مَنْ جاء بيتي ساعَةَ لمْ أكنْ ورأى الدمَ في / الستائر / مَنْ لمسَ الباب، مَنْ طافَ في الغرَفِ / من نَظَرَ سريري؟/ أنا لست أوديسيوس حتى يكون لي / معجبون / قرأوا قصتي، وجاؤوا يعزونني/ لا / ولست أوديسيوس/ لتكون لي أخت / تطرز / على الماكِنة شالا، أو قميصا / لشقيقها الغائب. لست أوديسيوس / لامرأة ماتت ودفِنَتْ تحت السلم / لست أوديسيوس / لأم. لست أوديسيوس /لابنٍ. لست أوديسيوس / لأختٍ. أنا لست أوديسيوس/ وهؤلاء الذين صرِعوا وتَخَبطوا في فِناء منزلي/ صَرعَهم القَدَر. مَنْ جاءَ بيتي في عَرَبة / مَنْ جاءَ خفية / وعندما لمْ أكنْ / مَنْ فَتَحَ الخزائنَ وقَرأَ رسائلي التي أرسلتها / إلى نفسي / أنا / أوديسيوس/ الميت في باخرة”.
* ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية