المناسبات الدينية تكسر النزعة الفردانية للمجتمع التونسي

رمضان يرفع نسق المد التضامني بين سكان الأحياء الشعبية.
الاثنين 2023/03/27
موائد الإفطار عينة من التضامن بين التونسيين

يؤكد خبراء علم الاجتماع أن نسق المد التضامني بين التونسيين يرتفع في رمضان رغم النزعة الفردانية التي طغت على المجتمع في السنوات الأخيرة، مشيرين إلى تكافل سكان الأحياء الشعبية وتآزرهم خلال هذا الشهر الكريم، حيث تكثر موائد الإفطار والمساعدات العينية والنقدية، كما تنتشر بين التونسيين عادة قفة رمضان التي تؤمنها العائلات المقتدرة وأصحاب المحلات التجارية، وحتى بائعو المواد الغذائية.

تونس - تتعدد في تونس على امتداد العام حركات التطوع لفائدة المعوزين سواء بجمع التبرعات وتوزيعها أو بالقيام على شؤونهم ومساعدتهم في حالات المرض أو العودة المدرسية، إلا أن هذا المد التضامني يرتفع خلال شهر رمضان المعظم فلا تكاد تخلو محافظة من موائد الإفطار سواء التي تؤمنها بعض السلطات أو التي تكون نتاجا لعمل مواطني تشرف عليه عادة جمعيات خيرية أو مواطنون يشتركون في عمليات جمع المواد الغذائية والطبخ والتوزيع.

كما لا تكاد تخلو منطقة شعبية من سلوك تضامني لأحد أفرادها تجاه جار فقير أو عابر سبيل محتاج، فترسل المساعدات بطريقة لا تشعر الأسرة المستفيدة بالعوز، وتكون المساعدة إما في شكل قفة رمضان أو وجبات جاهزة تحوي كل الأطباق اللازمة لشهر الصيام.

ورغم أن سكان الأحياء الشعبية لا يتوادون في المناسبات العادية، إلا أنهم في المناسبات الدينية يكرمون الضيف ويعينون المحتاج ويساعدون الفقير.

التونسي يسعى في المناسبات الدينية إلى مساعدة الآخر رغم النزعة الفردانية التي تطغى على المجتمع

وقالت الأستاذة والباحثة في علم الاجتماع بجامعة تونس رانيا غويل إن التونسي يسعى خاصة في المناسبات والأعياد الدينية إلى مساعدة الآخر، رغم مفارقة هامة تتمثل في “الفردانية” التي تطغى على المجتمع التونسي.

ولفتت المختصة في علم الاجتماع إلى أن مظاهر المد التضامني ترتفع نسقها خاصة في الأحياء الشعبية، التي لا تزال تحافظ في جانب كبير منها على علاقات طيبة ومتينة مع الأجوار.

وشددت في سياق متصل على أن المد التضامني الفردي موجود، لكنه تراجع في السنوات الأخيرة بفعل تدهور المقدرة الشرائية للمواطنين والأزمة الاقتصادية، حسب تقديرها.

وأكدت رانيا غويل أن المجتمع المدني في تونس بمختلف مكوناته يمثل قاطرة هامة في مجال المد التضامني، ولاسيما خلال المناسبات والأعياد وعقب الكوارث الطبيعية.

ورغم غلاء الأسعار إلا أن هذه الحركات التضامنية لم تتوقف يوما، حتى إن بعض المتطوعين وزعوا أكثر من 300 وجبة إفطار وسحور في اليوم الواحد منذ انطلاق الشهر المعظم. وكأن التضامن في تونس لا يخضع لقوانين السوق ولا للتضخم ولا لهبوط الدينار، بل يخضع فقط لإنسانية التونسيين وتواددهم رغم كل الظروف والضغوطات المحيطة بهم منذ سنوات.

وتشهد تونس قبل حلول شهر رمضان انتشار العديد من الشباب المنخرط في جمعيات خيرية أمام مراكز التسوق والمساحات التجارية الكبرى، حيث يستوقفون الزبائن بطريقة مهذبة من أجل المساهمة في “قفة رمضان”، وهي عبارة عن سلة تقليدية يستعملها التونسيون للتبضع، وتستعملها هذه الجمعيات كرمز للتضامن بين الناس.

بعض المخابز تساهم في دعم موائد الإفطار
بعض المخابز تساهم في دعم موائد الإفطار 

ومنذ أكثر من 10 سنوات، دأبت مروى الحبيبي، وهي رئيسة جمعية خيرية، على جمع المساعدات في مثل هذه المناسبة لصالح العائلات الفقيرة. وتقول إن لدى الجمعية قائمة بأسماء عائلات فقيرة تقطن في مناطق معزولة وتحتاج إلى المساعدة خلال شهر رمضان. وتضيف “على غير العادة، سجلنا ارتفاعا كبيرا في عدد المحتاجين”.

وعن إقبال التونسيين على مساعدة المحتاجين، تقول الحبيبي “عموما، عندما يثقون بالجهة التي تؤمن توصيل المعونات إلى مستحقيها يكونون كرماء”.

تتوجه الحبيبي وبقية أعضاء الجمعية بشكل دوري إلى الشركات والمنظمات الكبرى والصغرى والمؤسسات التربوية والعمومية لجمع التبرعات، وفي مرحلة ثانية يتوجه الشبان المتطوعون إلى القرى النائية لتوزيع المساعدات بطريقة سرية حفاظا على كرامة الناس.

300

وجبة إفطار وسحور في اليوم الواحد تم توزيعها منذ انطلاق الشهر المعظم

ويرتفع منسوب نشاط الجمعيات الخيرية مع بدء شهر رمضان، الذي صار موعدا سنويا لجمع المساعدات المادية بهدف توزيعها على الفقراء والمحتاجين. وتسعى هذه الجمعيات إلى تغطية أكبر عدد ممكن من العائلات الفقيرة في ظل غلاء الأسعار وضعف المداخيل. وقبيل موعد آذان المغرب، تبدو حركة المقبلين من المحتاجين وعابري السبيل على أشدها في منطقة “الكبارية”.

والكبّارية هي ضاحية تقع جنوب العاصمة تونس تتكون من 8 أحياء شعبية، يعود أصل تسميتها إلى شجيرة الكبار (الشلفح أو الأصف) التي كانت تنتشر بكثافة في المكان قبل بدء تعميره في سبعينات القرن الماضي، وفق الموقع الرسمي للبلديات التونسية.

ومنذ أكثر من سبع سنوات يتكرّر هذا المشهد خلال شهر الرحمة، بعد أن خصص التونسي علي الهادفي مطعمه ليكون قبلة الصائمين في رمضان، لاسيما أصحاب الدّخل المحدود، والطلبة الأفارقة المغتربين عن عائلاتهم.

وسعيد المرابطي هو أحد منظمي هذه الموائد إلى جانب الهادفي، تحدثا عن فعاليتهما السنوية، قائلين “هدفنا الأساسي يتمثل في الاهتمام بالعائلات محدودة الدخل والمعوزة”. وأضافا في وصف مائدتهم أنها “تتميز بالمرح، فهي ليست تلك الصدقة المشحونة بالمن والأذى، بقدر ما تندرج في إطار عائلي، حيث يتعارف من خلالها الجميع على بعضهم”.

وقال المرابطي “ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل، إنها مبادرات فردية”. وتستقطب المائدة جميع الفئات من أجل الحصول على الدعم.

وتقدم موائد إفطار “الكبارية” وجبات لأكثر من 420 صائما يوميا، منهم قرابة 90 طالبا أفريقيا، إضافة إلى 30 عائلة أخرى تتناول الطعام في منازلها. ويعتبر المرابطي أنّ “تقديم الوجبات للطلبة الأفارقة، يدعم صورة تونس من حيث التكافل والتراحم وحسن الضيافة، التي يحملونها إلى بلدانهم حين عودتهم إليها”.

الاستهلاك يزداد خلال شهر الصيام
الاستهلاك يزداد خلال شهر الصيام 

وتخصص بدورها الحكومة التونسية مساعدات للعائلات المعوزة في شهر رمضان. واستعرض وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي خلال جلسة عمل وزارية انتُظمت بقصر الحكومة بالقصبة بإشراف رئيسة الحكومة نجلاء بودن، استعدادات الوزارة للإحاطة بالعائلات المعوزة والفقيرة خلال شهر رمضان.

وأعلن الوزير، وفق بلاغ لرئاسة الحكومة، رصد جملة من المساعدات الاجتماعية لحوالي 320 ألف عائلة معوزة بقيمة جملية تقدر بـ38.4 ألف دينار، كما ستتمتع 45 ألف عائلة بإعانات في شكل طرود غذائية بقيمة جملية تقدر بـ3825 ألف دينار.

وأضاف الزاهي أنه تم تخصيص طرود تحتوي على مواد غذائية لغير المنتفعين بقفة رمضان بقيمة جملية تبلغ 200 ألف دينار، كما سيتم بمناسبة هذا الشهر الكريم تنظيم 48 مائدة إفطار ينتفع بها حوالي 4340 شخصا.

ومنذ الأسبوع الذي يسبق دخول شهر رمضان، يشهد سلوك التونسيين تغييرا كبيرا. فتزدحم المحال بالمستهلكين ممن تزيد حاجياتهم التي يقتنونها عما يحتاجونه خلال الأيام العادية، على الرغم من ارتفاع أسعار أغلب المنتوجات التي عادة ما تشهد ذروتها خلال هذا الشهر.

وبحسب المعهد الوطني للإحصاء، فاستهلاك التونسي يتضاعف خلال شهر رمضان مرتين على الأقل. وتزيد نفقات العائلة نحو 8 في المئة بالمقارنة مع الأيام العادية، فيما ترتفع مصاريف الطعام والغذاء بنسبة 27 في المئة.

ويبدأ التونسيون على غرار بقية مسلمي العالم بالاستعداد لشهر رمضان قبل أسبوع من قدومه. لتنشط الأسواق والحركة التجارية إلى ساعات متأخرة من الليل، على عكس الأيام العادية التي تشهد فيها المدن ركودا تجاريا منذ الساعة السابعة مساء، لتدب حركة مستمرة في شوارع أغلب المدن على مدى الشهر الكريم إلى ساعات السحور أحيانا، فيما تتزين أغلب واجهات المحلات والمقاهي وقاعات الشاي بفوانيس رمضان.

16