المكان الأكثر اتساعا في جهنم محجوز للواقفين على الحياد

صدرت للكاتب سليمان المعمري رواية “الذي لا يحب جمال عبدالناصر” عن دار الانتشار العربي ببيروت التي سبق أن أصدرت معظم كتبه من قبل، ومنها مجموعاته القصصية الثلاث “ربما لأنه رجل مهزوم”، و”الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة”، و”عبدالفتاح المنغلق لا يحب التفاصيل”، إضافة إلى كتابيه الحواريَيْن “قريبا من الشمس”، و”ليس بعيدا عن القمر” اللذين تضمنا حوارات مع كتاب ومثقفين عمانيين.
يمثل عنوان رواية سليمان المعمري “الذي لا يحب جمال عبدالناصر” إشكالية تقود إلى فضاء روائي يمثل جملة ناقصة، تشبه جملة العنوان، وهي تحتاج إلى قراءة مضاعفة للكشف عن مستويات الدلالة فيها، وعلاقة ذلك بالفضاء العام الذي تجري فيه ثورات الربيع العربي، ومن أجل التعرف على وجهة نظر السارد العليم/ المؤلف عن هذا الفضاء المربك والشائك.
نمذجة الواقع
يفتتح السارد العليم فضاء الرواية بتحديد زمن الأحداث، حين يصرح مستعيرا صوت جمال عبدالناصر: “إن الزمن يمرّ بسرعة ها هي ستون سنة بالتمام والكمال تمرّ اليوم على ثورة يوليو”. وذلك يعني أن زمن التفوّه كان عام 2012، وهو زمن يقع في الزمن الفعلي لأحداث “الربيع العربي” في مصر، والتي كللت بانتخاب مرسي الإخواني رئيسا للبلاد، وهذا يعني أن شخوص الرواية في كل تصرفاتهم يتنفسون هواء هذا التغيير بدرجات متفاوتة.
استثمر المؤلف تعدّد الأصوات كتقنية للكشف عن الصراعات ووجهات النظر، التي تتحكم بمجموعة صغيرة من الصحفيين، يعملون في صحيفة عمانية، لكن تعدّد الأصوات في حدود هذه التجربة، يبقى هامشيا في معظمه.
فهي شهادات بضمير المتكلم دون وجود مرويّ له صريح -باستثناء شهادة بسيوني الموجهة إلى زينب- مما يدخلها في البوح الذاتي، ومع أنها بوح ذاتي فإنها تبقى تصريحات وجلة عن حتمية حدوث ثورة الربيع العربي، ووعودها في تغيير الكيانات السياسية القائمة في المنطقة العربية، فجميع شخوص الرواية يتحدثون بالتورية والمجاز، ولا يصرحون بآرائهم بشكل واضح، كما يلاحظ أن من يتقنع منهم بالدين هم شخصيات مسطحة، همّها الأول المصلحة الشخصية والحفاظ على الذات. أما الشخصيات المتحررة من التابوات، فهي شخصيات متمرّدة تتحدث بحرية أكبر، وتوجّه نار انتقاداتها إلى الدولة والمسؤولين فيها.
تطبيق الإسلام السياسي لا يمثل المعبر الأسلم لكل أمراضنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية
أصوات الشخصيات في الرواية شهادة على أحداث الربيع العربي، متمثلة بالثورة المصرية والثورة التونسية، مع إشارات إلى التحركات التي طالت أقطارا عربية جرت السيطرة عليها، وأخرى قد تمّ التستر عليها، وكلها تفصح عن أمل قادم. وهناك أصوات أخرى مملوءة حسرة وتهكما عن هذه الثورات، التي توقفت في منتصف الطريق، أصوات تدخل في بلاغة التورية التي تنتهج التكتم وعدم الإفصاح.
وتمثل شخصية بسيوني سلطان نموذجا صارخا للشخصية التي تجعل مبادءها مقياسا لا يقبل الخطأ، فهو يعتقد أنه يمتلك كل مواصفات الصدق والعدالة، ويعزز أقواله دائما بآيات من القرآن الكريم، أو من خلال شخصيته باعتباره شيخا أزهريا، ويرسم السارد العليم شخصية بسيوني بشكل يسميه باختين “النصاب أو المهرج”، الذي يصفه قائلا “النصاب والمهرج والغبي، ينشئون حول أنفسهم عوالم صغيرة خاصة، ويتصفون بميزة خاصة وحق خاص، وهو أن يكونوا غرباء في هذا العالم لا يتضامنون مع أيّ وضع من الأوضاع الحياتية القائمة في العالم، ولا تناسبهم أيّ منها، فهم يرون باطن كل وضع كذبة”.
واتخاذ شخصية بسيوني محورا تدور حوله شهادات شخصيات الرواية، يعبّر عن ميل واضح إلى رفض الأفكار الثابتة والأقاويل ذات المنحى التعصبي، سواء كان فكريا أو دينيا، ويمثل تغيبه عن عجلة السرد -سوى شهادته عن سيرته الشخصية، وهي شهادة ضعيفة، ولا قيمة لها- تساؤلا يفصح عن جدية وجهة النظر، التي لا ترى في تطبيق الإسلام السياسي معبرا سليما لكل أمراضنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية
فضاء مربك
تبدو جريدة المساء فضاء مصغرا لما يجري في خارجها، إذ تتوفر في هذا الفضاء شخصيات منمذجة بالاتجاه الذي يكشف الصراعات في عالمنا المعاصر، من خلال عينات متنوعة لها ولاءات سياسية ودينية ومذهبية مختلفة، فالخراصي مسؤول الصفحة الدينية أباضي، يرى أن مذهبه مثالا للاعتدال، وهو يمثل الدين، وزينب رئيسة القسم الاقتصادي شيعية ومتزوجة من أباضي معتدل، وفق شهادتها، لم يطلب منها تغيير مذهبها عندما تزوجها، كما أن له موقفا رافضا من زواج المتعة الذي يجيزه مذهبه.
|
وهذه النخبة تمثلها الشخصيات الإشكالية في الرواية: رئيس القسم الثقافي، العلماني العماني حسن العامري، ورئيس القسم المحلي سالم الخنصوري، إضافة إلى شخصيتي زينب العجمي والمصحح التونسي الذي “رأى” خريف ثورات الربيع العربي في تونس، وهي تسحق على يد السلفيين. كل هؤلاء جمعهم المؤلف ضمن الرواية، في مواجهة شخصية بسيوني الغائبة عن السرد.
أما عن سبب تغييب بسيوني عن السرد، فذلك يدخل ضمن تصورات السارد الذي يرى أن عالم بسيوني معروف، وأفكاره وتطلعاته معروفة أيضا، بما طرحته الجماعات السلفية المتشددة من برامج في إنشاء نظام إسلامي يشبه نظام الخلافة الإسلامية.
يستثمر الروائي سليمان المعمري الفضاء الروائي لأغراض جمالية وفكرية، تهتم بتسجيل وجهة نظر ساخرة عن الأوضاع التي تعيشها شخصياته الإشكالية في عمان، وقد استثمر السخرية وسيلة أساسية في سرد تغلب عليه الفكاهة والتندر والضحك من الشخصيات الدينية المتشددة، كما أنه استثمر بلاغة التورية للتعتيم على المواقف الجدية التي تطرحها شخصياته الإشكالية التي تؤمن بالتغيير، ويلاحظ في بناء شخوص الرواية، ميل المؤلف إلى رسم الشخصيات النمطية بصيغة الكاريكاتير، في تضخيم جوانب الهواجس الخاصة لديها، والإطالة في سرد سيرتها الذاتية الفارغة من المعنى، وهي تتمحور في الحفاظ على الذات وتغليب الجانب النفعي في تعاملها مع الآخرين، كما هو حال بسيوني سلطان. كما تتضح صورة الكاريكاتير في شخصية رئيس التحرير الذي يتعامل حتى مع زوجته تعاملا نفعيا، ويلخص المصحح التونسي شخصية رئيس التحرير بالكلمات التالية “نصب، ومنصب، وانتصاب”.
أما الشخصيات الإشكالية التي تنتمي إلى تيار التجديد والتغيير، فقد صوّرها الكاتب تصويرا لائقا بها وأعطى شهاداتها وسيرتها الذاتية بعدا خاصا يشي بعلاقتها الوطيدة بالتغيير والحث عليه.
لقد استثمر الروائي الشاب سليمان المعمري فضاء التغييرات الصاخب للربيع العربي، لضخ أسئلة واستفهامات، ووضع علامات تعجب على مجريات الأحداث الواقعية واتجاهاتها المربكة، لينير المسالك المغلقة والطرق الشائكة وهي تفرز أنظمة استبدادية أقسى من الأنظمة التي سقطت، وتتجه القراءة المتأنية لهذه الرواية الساخرة باتجاه رفض وجهة النظر المحايدة أو المهادنة، ووفق أرضية صلبة كان قد عبدها مارتن لوثر كنغ بمقولته الشهيرة “إن المكان الأكثر اتساعا في جهنم محجوز لأولئك الذين يقفون على الحياد في القضايا الأخلاقية الكبرى”.