المفكر المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي: انتهى اليوم دور الفيلسوف المنعزل

الفلسفة تتسرب من النوافذ أكثر مما تدخل من الأبواب.
الأحد 2024/03/03
لم نعد نلمس العداء بين الفلسفة والسلطة

الفيلسوف المغربي عبدالسلام بن عبدالعالي من الذين أرسوا دعائم ثقافة مغايرة، من خلال طرحه لموضوعات جديدة لها علاقة بما يعيشه المجتمع المغربي والعربي اليوم، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، حيث خلص عبر مسيرته الفكرية الثرية إلى أن الفلسفة لا يمكنها اليوم إلا أن تكون تفاعلا مع نبضات الحياة المعاصرة. “العرب” كان لها هذا الحوار مع المفكر حول الفلسفة ورؤاه لها في راهنها.

تحفل مسيرة المفكر المغربي الحائز على الدكتوراه في الفلسفة ويدرّس في جامعة محمد الخامس عبدالسلام بنعبد العالي، بعدد من المؤلفات الفلسفية والفكرية تزيد عن ثلاثين مؤلفا، وما يزيد عن هذا الرقم ترجمات لعشرات المفكرين والمبدعين والفلاسفة العالميين؛ منهم بورديو، وبارت، ودولوز، وموريس بلانشو، والعروي. يضاف إلى ذلك حضور فاعل على خارطة المشهد الفكري والفلسفي، ومواكبة لمجريات الأحداث في الواقع العربي والعالمي، الأمر الذي يجعل من مسيرته الفكرية والفلسفية والإنسانية مشروعا فكريا وثقافيا متفردا عربيا ودوليا.

وفاز بنعبد العالي أخيرا بجائزة سلطان العويس الثقافية في دورتها الثامنة عشرة (2022-2023)، فرع الدراسات الإنسانية والمستقبلية، لأنه وفق بيان الجائزة “من رواد المدرسة التفكيكية في الثقافة العربية، وهو يرى في الأدب والكتابة والترجمة مداخل مهمّة للفلسفة. وتتميّز أعماله بأسلوب سهل يقارب بين المتخصّص وغير المتخصّص”.

راهن الفلسفة

العرب: هل تكتب وفق مشروع؟

عبدالسلام بنعبد العالي: ما يطبع كتاباتي هو تشتت موضوعاتها ومناحيها. من هنا يتعذر عليّ أن أتحدث عن مشروع. فأنا أبعد الكتاب عن النسق والمنظومة. وحتى كتبي لا تشكل وحدة إلا من حيث إنها تقدم نفسها تحت عناوين ذات طابع إستراتيجي. ما أثارني في سؤالك هو كلمة ‘تجريب‘، مع ما تعنيه من تكرارٍ لمحاولات ملاحقة بعض مظاهر الحياة المعاصرة. إذ أن ما يهمني هو هذه الملاحقة، ملاحقة نبضات الحياة المعاصرة بكل ما يطبعها من صخب وتحولات تقنية وفكرية، مع ما ينتج عن ذلك من تحولات لأسلوب الكتابة ونظرية توليد المعاني.

الدرس الأدبي هو المنفذ الأساس الذي يمكن للفكر النقدي أن يتسرب منه إلى فصولنا الدراسية وعقولنا ومجتمعاتنا

لعل ما يطبع كتبي، هو ابتعادها عن الكتابة الفلسفية المعهودة، وميلها إلى تجميع ومضات فكرية، لا تخضع لقواعد لعبة التأليف المعهودة، وخصوصاً الفلسفي منها. بل إنها تتخذ وسائل نشر منابر ما كانت الفلسفة لترضى بها حتى وقت غير بعيد. لن يتعلق الأمر بطبيعة الحال، بعرض نظري حول الكتابة الشذرية، والتوقّف عند المفكرين الذين أرسوا أسسها الفلسفية ابتداءً من الرومانسيين الألمان حتى رولان بارت، إذ أن ذلك لن يكفي لتبرير ما إذا كان هذا الشكل هو الطريق الأنسب للكتابة الفلسفية في عالمنا العربي الذي يظهر أنه في حاجة ماسة إلى كتابات تمهيدية تعليمية تحترم قواعد التأليف والنشر المعهودين.

يجد هذا الأمر تبريره إذا استحضرنا خصوصية الممارسة الفلسفية عندنا وما تعرفه من صعوبات تتمثل أساساً في غياب الدرس الفلسفي في كثير من معاهدنا التعليمية، وعدم مواكبة برامجنا لمستجدات ذلك الدرس، فضلاً عن عدم التوفر الكافي لأمهات النصوص بلغة متيسرة، الأمر الذي يضع عراقيل في وجه ممارسة الفلسفة تفكيراً وتدريساً وربما كتابة وتأليفاً.

قد يبدو مبرراً أولا إذا لانتهاج هذا النوع من الكتابة، التي لا تخضع لقواعد الدرس والتأليف التقليديين، هو إيجاد منفذ يجعل كل هذه العوائق التي أشرنا إليها لا تقف حجر عثرة إلا أمام شكل من أشكال الممارسة الفلسفية، أي ما يدعى عادة كتابة رصينة، أعني تلك الكتابة التي تحرص على توظيف معرفة فلسفية دسمة، وتنصبّ على تاريخ الفلسفة وتنقب في نصوصه. لكننا نعلم أن تاريخ الفلسفة ذاته، غربيَّه وعربيَّه، قد عرف ممارسات وأشكالا للكتابة على هامش ما يمكن أن ندعوه تاريخا رسميا.

ب

حتى التفكيكية ذاتها، التي يعرف عنها أنها فلسفة الحفر في النصوص وتاريخها، والتي ترعرعت في حضن المدرسة العليا للأساتذة بفرنسا، أي داخل فضاء تعليمي يولي أهمية قصوى للنصوص والتنقيب فيها، حتى التفكيكية لم تنشغل في فضاءات أخرى بهذا الهوس التأريخي، بل إنها ربما لم تجد امتداداتها بعيداً عن موطنها، أكاد أقول، إلا بعيداً عن موطنها، وفي أقسام الدراسات اللغوية والأدبية. ولعل في هذا المثال ما يفتح للفلسفة في عالمنا العربي منافذ أخرى غير المنافذ التقليدية، ويجعلها نوعاً من سيميولوجيا للحياة اليومية التي تزخر بالدلالات والعلامات.

العرب: كوننا نعيش في مرحلة يتوجب على المعرفة الجديدة أن تأتي عبر جهد تعاوني على نطاق واسع، إذ ربما يشمل هذا الجهد العديد من الناس من مجالات وتقاليد تخصصية مختلفة، انطلاقا من ذلك نسأل المفكر المغربي حول قدرة الفلسفة على القيام بدور ما في هذا السياق.

عبدالسلام بنعبد العالي: ربما انتهى اليوم دور الفيلسوف المنعزل المحصور في تخصصه، والسجين لتاريخ الفلسفة. ما يميز الفلسفة المعاصرة هو انفتاحها على ما كان، حتى وقت قريب، يعتبر تخصصات وأجناس معينة للكتابة. لا نستطيع اليوم أن ندرج كثيرا من المفكرين، الذين لهم تأثير قوي على الميدان الفكري، في خانة بذاتها وتخصص بعينه. يصدق هذا على فوكو كما يصدق على دولوز ودريدا وبارث، وإمبرتو إيكو، وآدرنو، بل إنه ينطبق حتى على هايدغر، الذي لا يمكن أن يفهم إلا في علاقته مع عظام الشعراء كهولدرلين وروني شار”.

الحياة الفكرية

العرب: ثمة الكثير من الجدل هذه الأيام حول إعادة قراءة برنامج التنوير الغربي، فهل يعتقد بنعبد العالي أن مُثل التنوير الغربي مازالت تلعب دورًا مفيدًا في ظروف اليوم؟

عبدالسلام بنعبد العالي: كان عبدالكبير الخطيبي يدعو إلى محاورة الهامش الأوروبي، وإيقاظ التفكير عنده، ومحاورة آخرِ آخرِنا، سعيا وراء خلخلة المركزية الأوروبية. فنحن لا ننفتح على الفكر الغربي حبا في المعرفة ولا سعيا وراء تقمص “برنامج تنويري”، وإنما، أساسا، جعله آخرنا بالفعل. ذلك أن الغيرية لا تُعطى لنا تلقائيا. فالغير لا يصبح آخرنا إلا إذا زحزح عن مركزيته المهيمنة. وهذا ما يبرر انفتاحنا عليه. فنحن لن نبتعد عنه إلا إذا اقتربنا منه. والمسافات التي من شأنها أن تبعدنا عنه ينبغي ابتكارها. فكل انفصال لا يتم إلا عن طريق الوصل والاتصال.

الفلسفة لا تحل مشكل الطاقة لكنها تساهم في تحرير الإنسان وإنقاذه مما تبثه الحياة المعاصرة من أشكال البلاهة

العرب: منذ بواكير القرن السابع عشر، مع فرانسيس بيكون وجاليليو جاليلي ورينيه ديكارت، ظلت العلاقة بين الفلسفة وخاصة فلسفة العلم والدين علاقة متقلبة نتيجة الصراعات، كيف تنظر إلى هذه القضية؟ وهل تعتقد أن ثمة مساحة للإيمان الديني داخل العلم في ظل تصاعد التطرف والتشدد الدينيين في مختلف الديانات السماوية

عبدالسلام بنعبد العالي: ينبغي أن نميز الاعتقاد الديني الشخصي عند المفكر عما قد تلاقيه أفكاره واكتشافاته من تعارض مع ما كانت الكنيسة تتبناه من تصور كوسمولوجي. فهؤلاء المفكرون الذين أوردت أسماءهم، كانوا متدينين جميعهم. لا ننسى أن ديكارت كان يقول: “إنني أدين بسياسة ملكي ودين مرضعتي”.

لكن فرق بين الإيمان الشخصي وبين العقيدة التي كانت الكنيسة تتبناها، والتي تبيّن أنها تتعارض مع بعض الاكتشافات الفلكية والفزيائية التي زعزعت مركزية الأرض، بل مركزية الإنسان، وحولت مفهوم الطبيعة عندما جعلتها، على عكس الطبيعة الأرسطية، لا تقوى على تغيير من تلقاء ذاتها. فطعنت في المفهوم الأرسطي للطبيعة الذي كان يعتبرها مبدأ حركة الأشياء، وأرست ما يسميه علم الحركة عند غاليليو “مبدأ القصور الذاتي”.

ب

العرب: هل استفاد الإبداع العربي من الفلسفة في خلق رؤى جديدة، مع ملاحظة أن جل المبدعين العرب بعيدون عن الاهتمام بالفلسفة؟

عبدالسلام بنعبد العالي: إذا أخذنا الفلسفة بالمعنى المدرسي، فقد لا يكون لهم اطلاع كاف على تاريخ الفلسفة. ولكن إذا اعتبرنا أن الفلسفة مناخ فكري يعيد النظر في نظرية توليد المعنى، كما يعيد النظر في مفهوم المؤلف والذات الفاعلة وآلية الاستنساخ، فإننا نتبين أن كثيرا من المبدعين المعاصرين منفتحون على الهزات الفكرية الكبرى التي عرفتها مفهومات الفلسفة المعاصرة.

كان المفكر عبدالله العروي قد أشار في المقدمة التي قدم بها لترجمته الجديدة لكتاب “الأيديولوجية العربية المعاصرة”، أن ديكارت عرف في الثقافة المصرية عن طريق طه حسين وما أثاره كتابه “في الأدب الجاهلي” أكثر مما عرف عن طريق عثمان أمين أو عبدالرحمن بدوي. فالفلسفة قد تتسرب من النوافذ أكثر مما تدخل من الأبواب. وهي قد تدخل حياتنا الفكرية عبر من يصنفون أصحاب الإبداع أكثر مما تنقل عبر من يصنفون مشتغلين بالفلسفة.

الانفتاح والتحرر

العرب: كيف ترى علاقة الفلسفة بالمجتمع؟ وهل تلعب دورا في حل المشكلات التي تواجهه؟

عبدالسلام بنعبد العالي: مشكلات المجتمع متنوعة متشعبة، وهي اقتصادية، اجتماعية، سياسية، أخلاقية، صحية، تعليمية… طبعا الفلسفة لا تحل مشكل الطاقة، لكنها تساهم في تحرير الإنسان وإنقاذه مما تبثه الحياة المعاصرة من أشكال البلاهة. لسنا مضطرين أن نعود إلى القول مع الماركسيين، إنها تسهم في محاربة الأوهام الأيديولوجية، وأشكال الاستلاب التي يتعرض لها إنسان المجتمع الصناعي، ولنكتفي بالقول إنها تساهم في ترسيخ فكر نقدي، لا يفتأ يعيد النظر في أولياته.

تراجع حضور الفلسفة داخل الأكاديميات نلمسه حتى في الجامعات الغربية. أعتقد أن الفلسفة، بشكلها التقليدي، ربما لم تعد تقوى على مواجهة القضايا الفكرية التي يعرفها العالم المعاصر. ربما هذا هو ما جعلها، تعيش في هوامشها، وتجد مرتعا لها في المقاهي الفلسفية، ومنابر الشبكات الاجتماعية، أكثر مما تجده داخل أقسام الدراسة.

ما يهم بنعبد العالي هو ملاحقة نبضات الحياة المعاصرة بكل ما يطبعها من صخب وتحولات تقنية وفكرية
ما يهم بنعبد العالي هو ملاحقة نبضات الحياة المعاصرة بكل ما يطبعها من صخب وتحولات تقنية وفكرية

العرب: ما علاقة الفلسفة الغربية على اختلاف تياراتها بالفلسفة العربية؟

عبدالسلام بنعبد العالي: يفترض سؤالك وجود فلسفة عربية تقارن بغيرها. ما يمكن أن أقوله في هذا الصدد هو أن علينا أن نتحرر ما أمكن من جميع أشكال الانغلاق، الجغرافي والقومي، ولنحاول أن نسترجع انفتاح قدمائنا على مختلف الملل والنحل، متسلحين بقوة الفكر النقدي.

ربما لم نعد نلمس العداء بين الفلسفة والسلطة خصوصا بعد ظهور بعض أشكال التطرف، حيث أخذ أصحاب القرار في مجتمعاتنا يدركون أهمية الفكر النقدي، وضرورته لمقاومة كل شكل من أشكال الفكر الظلامي. ولعل هذا ما يبرر الانتعاشة التي أصبحنا نلاحظها عند مختلف الأقطار العربية للفكر الفلسفي.

العرب: ما هي الرسالة التي يحب إرسالها إلى الفلاسفة العرب؟

عبدالسلام بنعبد العالي: لست مؤهلا لأن أوجه رسالة. إن كان عليّ أن أبرر ما أقوم به فربما إحساسي بضرورة تفتح الأدب، إبداعا ونقدا وكتابة، على الهزات الفكرية الكبرى التي يعرفها الفكر المعاصر. وهذا وعيا مني أن الدرس الأدبي هو المنفذ الأساس الذي يمكن للفكر النقدي أن يتسرب منه إلى فصولنا الدراسية وعقولنا ومجتمعاتنا.

10