المغرب يستثمر التراث الإسلامي لتأكيد التعدد الثقافي

المغربي فؤاد بن أحمد: تراثنا الإسلامي ليس الفقه والأحاديث فحسب.
الاثنين 2023/01/16
التراث جزء من المستقبل أيضا

رغم أهميته البالغة يبقى التراث الإسلامي اليوم أمام معضلة التعامل معه، إذ يرى بعض الأصوليين أنه ثابت، ويستندون إلى شق منه في التأسيس لخطابات منغلقة وطوباوية تقترح نفسها حلولا للحاضر، وهو ما يخلق التطرف الذي بات تهمة جاهزة تجاه المسلمين وتراثهم. لكن الكثير من الجهود مثل ما يحدث في المغرب تسعى لاستنطاق التراث وتخليصه من النظرة النمطية واستثماره في ترسيخ التعدد.

الرباط - يزخر المغرب بتراث إسلامي عريق يتصدر قوائم الإيسيسكو التي تسعى لتثمين هذا التراث وتسجيله، وقد بدأ المغاربة أخيرا في استثمار التراث بشكل مختلف كدافع تنموي ورصيد ثقافي يمكن استغلاله.

ولتحقيق الغايات الفضلى من التراث الإسلامي لا بد من مساءلته واستنطاقه والإضاءة على جوانب عديدة فيه لتوسيع دائرة الإدراك لما يزخر به، وبالتالي مواكبته للعصر وتخليصه من الجمود والفهم المغلوط.

التراث والتعدد

فؤاد بن أحمد: مظاهر التعدد كثيرة في تراث المسلمين وفلسفتهم وعلومهم
فؤاد بن أحمد: مظاهر التعدد كثيرة في تراث المسلمين وفلسفتهم وعلومهم

أكد أستاذ الفلسفة ومناهج البحث بمؤسسة دار الحديث الحسنية المغربي فؤاد بن أحمد، مؤخرا في الرباط، أن التعددية الثقافية واللغوية والدينية التي يحفل بها التراث الفلسفي والعلمي للحضارة الإسلامية تمثل خير رد على مختلف أشكال التطرف السائدة اليوم.

وقال بن أحمد خلال محاضرة نظمتها مؤسسة المدى-فيلا الفنون بالرباط، حول موضوع “التراث العلمي والفلسفي بصيغة التعدد”، إن مختلف مظاهر التعددية في تراث المسلمين بما في ذلك المتون والأعمال الفلسفية والعلمية المعروفة، يمكن أن تشكل ردا على أشكال التطرف في الفكر والواقع سواء تلك التي تصدر عن المنتمين لهذا التراث أو عن خصومه.

واستحضر المحاضر في هذا الصدد نماذج من هذه التعددية، مشيرا إلى أن الطبيب الخاص للخليفة عمر بن العزيز، على سبيل المثال، كان يهوديا من أصول سريانية وأول مترجم معروف في الحضارة الإسلامية، تماما مثلما كان المشرف على تربية أبناء الخليفة معاوية بن أبي سفيان هو المسيحي يوحنا الدمشقي، الذي كانت له أيضا كتابات ضد الإسلام.

واعتبر بن أحمد أن التراث الإسلامي ظل محاطا بعدد من الأحكام المغلوطة التي ظلت تختزله في كونه تراثا مختصا في الفقه والحديث ولا يتعداه إلى غير ذلك من العلوم الفلسفية والعلمية، معتبرا أن البحث في هذا التراث سرعان من يفضي إلى تهاوي أحكام كثيرة من تلقاء نفسها.

الغرض من المحاضرات هو إظهار المكونات المتعددة التي تفاعلت لتنتج ما يسمّى اليوم بالتراث الفلسفي والعلمي لمجتمعاتنا

وأشار على سبيل المثال إلى أن احتكاك المسلمين بالتراث العلمي الذي تجلى مثلا في ترجمة كتب الطب لأبقراط وجالينوس وغيرهما فاق عددها 130 كتابا، ينفي صحة الادعاء القائل بأن المسلمين كانوا رافضين للعلوم اليونانية باعتبارها “علوما برّانية”.

كما أشار إلى أن علوما مثل النحو وأصول الفقه ما كانت لتأخذ مجراها وتتطور دون الاحتكاك بعلم المنطق، تماما مثلما يصعب الحديث عن علم الأخلاق الإسلامية دون استحضار علم الأخلاق كما تناولته الفلسفة، مستحضرا في الوقت ذاته مساهمة علماء مسلمين من العرب وغيرهم في المسيرة العلمية الإنسانية، من قبيل الرازي وابن سينا وابن الهيثم.

وعن جدوى البحث في التراث العلمي والفلسفي الإسلامي اليوم، قال المحاضر إن قيمة ذلك تنبع من اعتبار أن “هذا التراث ليس جزءا من الماضي فحسب، وإنما هو جزء من المستقبل”، مبرزا أن المطلوب اليوم هو تحويل هذه التركة إلى رأسمال يمكن الإفادة منه، تماما مثلما حدث في أوروبا في القرن التاسع عشر في تعاملها مع الإرث اليوناني.

سلسلة محاضرات

Thumbnail

تندرج المحاضرة ضمن سلسلة من ثلاث محاضرات تنظمها مؤسسة المدى – فيلا الفنون بالرباط، يقدمها الباحث بن أحمد وتناقش أيضا موضوعي “المسلمون وبدايات الاحتكاك بالمراكز العلمية والفلسفية”، والتي تنظم يوم السابع عشر من فبراير المقبل، و”الفاعلون السريان في الترجمات العلمية والفلسفية” في العاشر من مارس المقبل.

وبحسب المنظمين، فإن الغرض من هذه السلسلة من المحاضرات يتمثل في “إظهار المكونات المتعددة التي تفاعلت في ما بينها لتنتج ما يسمى اليوم بالتراث الفلسفي والعلمي لمجتمعاتنا، وإظهار كيف أن الفاعلين في هذا التراث لم يكونوا على مذهب واحد ولا على دين واحد ولا كانوا من ذوي لغة واحدة، لكن هذا لم يمنعهم من التواصل مع بقية الفاعلين”.

وبحسب المصدر ذاته، فإن الأبعاد التربوية لهذه السلسلة تركز على تقديم هذا التراث العلمي والفلسفي في صيغه المتعددة وبأصوله المتنوعة، وعلى تقديم مختلف الفاعلين والمساهمين فيه بمختلف خلفياتهم اللغوية والدينية والثقافية والعرقية، وذلك عبر استهداف فئة الشباب أساسا عن طريق التركيز على التربية على التعدد والتنوع والاعتراف بهما وبدورهما، وترسيخ قيم التفكير النقدي وثقافة الاختلاف.

ومن شأن هذه المحاضرات أن تفتح أفق النقاش أوسع حول التراث والتعدد الثقافي، ما يرسخ مبدأ التنوير وينبذ التعصب والانغلاق، مانحة هذا التراث حركية ومخلصة إياه من الجمود الذي يسعى البعض إلى زجه فيه.

وتأتي المبادرة كذلك ضمن توجه مغربي يسعى لتأكيد التنوع الحضاري والتعدد الديني، بما يمثلانه كعاملي إثراء وإغناء للبلد والمجتمع، أوصل البلاد إلى حالة تعايش مجتمعي واضحة، ويسّر صياغة خطاب ديني هادئ ورصين، يفهم الإسلام بكونه دينا يتحاور مع بقية الأديان ولا يُسيجُ معها العلاقات.

ولذلك تتواتر المناسبات التي يعبر فيها المغرب عن فخره بمكوناته الدينية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من النسيج المجتمعي المغربي، الذي توحده المواطنة ولا تفرقه الأديان.

13