المغربي محمد كزو يزور ديكارت ويعيد رصد أهم أفكاره

الرباط - يتضمن كتاب “رحلة ميدانية في عوالم ديكارت.. حول تعثر الحداثة عربيا” للباحث المغربي محمد كزو، جولة في أفكار الفيلسوف الفرنسي الأشهر وطروحاته، إلى جانب رحلة ميدانية للأماكن التي استضافت طفولته وصباه وشهدت أمارات نضوجه الفكري وما أنتجه من مؤلفات لا تزال حاضرة بيننا.
مما يكتبه كزو على غلاف كتابه الذي صدر عن “الآن ناشرون وموزعون” (2023) “إن ديكارت قد يكون ‘قُتل بحثا’ كما يرى بعضهم، لهذا رأى أن يوجه اشتغاله - كما يوضح العنوان الفرعي للكتاب - إلى ‘سياق الواقع الذي تطلبته المراحل التي عاشها العالم العربي الإسلامي، بعدما لامس وتعامل مع الحداثة، أو بتعبير أصح مع المنجز الغربي الذي سطع نجمه في المجالات كلها، وانصهر في الحياة العربية اعتمادا على نتائج الحداثة، وليس على جذورها'”.
العقل أضحى منذ القرن الديكارتي (السابع عشر) فضاء جديدا لمحاسبة الذات والعالم، ذلك “أنه لا يمكن أن نطمئن أبدا إلى من يخدعنا ولو مرة واحدة”، فعلاقة الذات بالعالم عند ديكارت هي علاقة ريبة من الأشياء وهي ريبة لا يمكن أن تقام على العقل باعتباره المراد والمنتظر، بل هي ريبة ستكون الحواس أساسها، وهو ما يصرح به ديكارت منذ التأمل الأول من كتابه التأملات “كل ما تلقيته حتى الآن على أنه أصدق الأمور وأوثقها قد اكتسبته بالحواس. غير أنني وجدت الحواس خداعة في بعض الأحيان”.
إن الفضاء الديكارتي هو فضاء يتجاوز المعرفة الحسية وهي صورة عن المعرفة المباشرة. ثانيا مغادرة الفضاء الديكارتي للفضاء التراكمي للمعرفة الأرسطية والكنائسية والأفلاطونية كمعارف هيمنت على العصرين اليوناني والكلاسيكي. ثالثا استعداد ديكارت لبناء فضاء جديد قوامه “العقل”: وهو ما سيعلن عنه الموقف الديكارتي إبان تأسيسه للكوجيتو “أنا أشك ـ أنا أفكر ـ إذن أنا موجود”، فالكوجيتو عندئذ قائم على شك: أولا في المعارف السابقة: الأفلاطونية والأرسطية والكنائسية. ثانيا في أداة المعرفة وواسطتها أي الحواس.
يقول كزو إن الهم الأكبر في هذا السياق يتمثل في كيفية الاستفادة من المنتج الغربي، ويطرح أسئلته المتتالية “أوليست المنطلقات غير المنطلقات؟ ألم يبدأ ديكارت من سياق آخر مختلف تماما؟ ثم ماذا عن هذه الأفكار التي جرحت الإنسان الغربي نفسه قبل الإنسان العربي؟ ألا يجب أن نأخذ مسافة الأمان الكافية من هذا المعطى الجاهز؟ ألم يستعمل ديكارت الخديعة في منجزه العلمي؟ وبالتالي هل يمكن عده مكرا غير مستساغ ومنبوذا؟ ثم السؤال الجوهري: ألم يكن العلم هو المحرك الرئيسي للحداثة؟”.
ويتطرق كزو إلى هذه الأسئلة بشكل أو بآخر داخل متن الكتاب الذي يمثل إسهاما جادا حول الفيلسوف الفرنسي، وحول “الحداثة” التي ظلت موضوعا مركزيا شغل العالم طيلة القرون الخمسة الماضية.
اشتمل الكتاب الجديد للباحث المغربي مقدمة وتسعة محاور وخاتمة، تناول من خلالها المؤلف بالدراسة والتحليل الفكر الديكارتي العلمي أو الفلسفي على حد سواء، لكن الأهم في هذه الدراسة هو الزيارة الميدانية التي قام بها الكاتب لمنزل ولادة الفيلسوف في بلده فرنسا، فخصص الكاتب محورا كاملا بالصور وتعليقات عليها.
ويعتمد كزو آلية التركيب بعد التحليل باعتبارها من الخطوات المهمة في التعامل مع المتن الديكارتي في عموميته، وهي الخطوة الأساسية نفسها التي اعتمدتها الحداثة، وخاصة مع ديكارت عينه. فهذا الفيلسوف يعد رائدا في التعبير عن الصياغة العلمية الجديدة للأسس الحداثية، بالتحول من الخارج الطبيعي إلى الداخل الذاتي اعتمادا على ميتافيزيقا ضامنة للمعرفة، وعلى مشروع متكامل سطر ملامحه الرئيسة عندما ضجر من التعليم العتيق للفكر اليوناني الممزوج بالنكهة الدينية، ولم يستطع أن يبوح عما في داخله حتى أكمل دراسته.
ويتناول الكتاب مجموعة من الأسئلة التي أجاب عنها كزو من خلال حوار أجراه مع الموظفة المسؤولة عن بيت ديكارت، فضلا عن الكيفية التي قطف بها ديكارت ثمار العلم والحداثة، وتعريف بأهم كتب ديكارت المتميزة في مجال العلم وخاصة في الفلسفة، مثل “العالم أو كتاب النور”، إلى جانب محور اهتم بالكيفية التي درس بها العرب ديكارت. واختُتم الكتاب بصور التقطها المؤلف للأماكن التي زارها، مقتفيا أثر ديكارت في مراحل عمره المختلفة.
وفي المحصلة، يصل بنا الباحث بعد هذه الرحلة الفلسفية المكثفة إلى فكرة عالمية الخطاب الحداثي، وجدواه في نقل الإنسانية خارج المجال الغربي من مستوى إلى آخر أكثر راحة، واستفادة الإنسانية الغربية خارج أوروبا من المنجز الحداثي نفسه.
يُذكر أن محمد كزو أصدر سابقا كتابا بعنوان “عقيدة الحقيقتين” عام 2021.