المغربي الحسين الميلودي فنان سخّر حياته لاستنطاق محيطه

ترك بعض الفنانين المغاربة الرواد، أمثال الحسين الميلودي الذي رحل عن عالمنا الخميس، بصمات واضحة ومختلفة في الفن المحلي، فهو ينهل من التقاليد الريفية والثقافة الشعبية لأبناء بلاده ليبتكر منها لوحات وأعمالا تشكيلية جعلته واحدا من الرواد وإسما برهن طوال عقود على تفرده وموهبته، وتظل مرجعا لتأريخ هوية المغرب وثقافته.
الرباط - توفي الفنان التشكيلي الحسين الميلودي، أحد الوجوه البارزة في مجال التشكيل المغربي المعاصر، الخميس عن 77 عاماً، داخل المستشفى العسكري في الرباط، حسب ما أعلنه مقربون منه.
والفنان التشكيلي الحسين الميلودي من مواليد عام 1945، وبدأ ممارسة هواية الرسم منذ أن كان في سن الخامسة، فصقل موهبته بسرعة واستطاع أن يخط اسمه كمبدع متميز واستثنائي أنجبته مدينة الصويرة الشاطئية. ورغم انشغاله بتتبع ورصد مكامن الجمال والاختلاف في بلاده، إلا أن صيته الفني وإشعاعه تجاوزا المستوى المحلي والقاري بفضل ما راكمه من إبداعات وتجارب حداثية جسَّدت التزاماته الإبداعية تجاه مشروعه الفني الذي شرع في تشييده منذ سنوات كثيرة، وقد قام بالأساس على استنطاق الذاكرة ومحاورة العلامات والرموز المنتشرة في محيطه والمستوحاة من عالمه الفني الموسوم بالاختزال والتبسيط الهندسي.
وفي رصيد الفنان الراحل الكثير من المعارض التشكيلية داخل المغرب وخارجه، وهي معارض بوَّأته مكانة متميِّزة ومنحته حضوراً وازناً داخل الساحة الفنية الوطنية والعربية.
الحسين الميلودي اشتُهر بلوحاته المليئة بالعلامات التجريدية أو التصويرية، والمستوحاة من التمائم والفن الريفي المغربي
وقال رئيس مؤسسة المتاحف المغربية الرسام مهدي قطبي إن “الميلودي المتحدر من الصويرة التي لم يغادرها مطلقاً، كان يتميّز باعتماده منحى أنتروبولوجياً بالإضافة إلى حسّه الجمالي الرفيع”.
وأشار إلى أنّ الرسام “ترك مجموعة أعمال تُعد مرجعاً ثقافياً محلياً يركز على الفنون الريفية والثقافة الشعبية المغربية”.
وكان الرسام الحسين الميلودي من أتباع مدرسة الدار البيضاء، وهي حركة ولدت في كليات الفنون الجميلة في المدينة المغربية ولعبت دوراً بارزاً في النهضة الفنية والثقافية خلال ستينات القرن الماضي.
واشتُهر تحديداً بلوحاته المليئة بالعلامات التجريدية أو التصويرية، والمستوحاة من التمائم والفن الريفي المغربي، وكذلك من أعمال الحرفيين في مسقط رأسه الصويرة الواقعة على ساحل المحيط الأطلسي.
ويعدّ الميلودي من بين كبار الفنانين التشكيليين المغاربة من جيل أحمد الشرقاوي ومحمد المليحي وفريد بلكاهية والجيلالي الغرباوي. ولوحات الفنان تعرض ضمن مجموعات ومقتنيات خاصة موجودة في المغرب وخارجه.
بعد الدراسة في مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء حصل الحسين الميلودي على منحة دراسية من الحكومة الفرنسية في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في باريس، ثم انتقل إلى مسقط رأسه ليكرس نفسه للرسم.
ومنذ معرضه الشخصي الأول في عام 1968 في مراكش، لم يتوقف الحسين الميلودي أبدًا عن تمييز الفنون البصرية في المغرب بلغة تستمد قوتها من التعبير عن المصادر التقليدية مثل الكتابات في الألواح الأثرية، والتهجئات المنتشرة في التمائم التي يتخذها عامة الناس للحماية من العين والسحر، بالإضافة إلى الأشكال المطبوعة على الفنون التقليدية.
وبرأي الناقد العراقي الرَّاحل جبرا إبراهيم جبرا “كان لرسوم الحسين الميلودي، التي رآها في معرض السنتين وفي معرض باب الرواح (الرباط، 1976)، وقع خاص في نفسه: إنه يستلهم الحجب والرقى الإسلامية، ويُعيد تكوينها في مساحات رائعة الدقة بأشكالها الخليطة الرقيقة، كأنها دانتيل عربي مليء بآلاف الرسوم الصغيرة والكلمات وعبارات الشعر الشعبي، إنه يحيي تقليداً شعبيّاً قديماً، ويتجاوزه إلى إبداع حقيقي”.
في لوحات الميلودي تتراقص أشكال مصغرة ورموز متحركة في شكل تجريدي من عوالم أثرية قديمة وكأنها خارجة للتو من رحم النقوش والرسوم الصخرية التي ترسم وجود الإنسان القديم. وأخرى هي أشكال وشخوص مأخوذة من الثقافة الشعبية الإنسانية في حدود تعبيرها وإيحاءاتها البصرية المتعدِّدة.
وتكمن أصالة الميلودي في أنه أثناء استلهامه من أشكال متجذرة في الثقافة المحلية، طور لغة خاصة به لا تشير بشكل مباشر أو حرفي إلى مصادر إلهامه وإنما تظهر مغربيته وانفتاحها على الفضاء المطلق من حولها.
ويتمثل أسلوب الفنان في اتباع مسارات هندسية مفصلة، في محاولة للكسر التام لمبدأ الكمال. وتقوم أعماله الفنية على الرمزية الخالصة التي تتبع الإضاءة، وتلقي بالإنسان داخل عالم لا متناه من السقوط والدوران، والتطور المتسارع حيث تتداخل الحدود التي يصورها وتندمج مع العناصر المكونة للوحة.
وقال عنه الناقد المصري نعيم عطية إن “الفنان الحسين الميلودي يواصل ضمن هذا الأفق الجمالي والتعبيري استلهاماته محاطاً بكائناته المنمنمة التي تتحرَّك وتعيش داخل جغرافيا رمزية مفعمة بالعلامات والأدلة التي أضحت تشكل قاموسه البصري والتشكيلي الذي هو أساس ديمومة إبداعاته ومصدر اعتزازه بمنجزه تيمُّناً بقول الفيلسوف المعاصر إرنست كاسيرر الوارد في ‘مقال عن الإنسان’ عام 1953: إن الإنسان لا يُمكن أن يهرب من إنجازاته، وهو ما عاد يعيش في عالم مادي فحسب، بل يحيا في عالم من الرموز أيضاً. إن اللغة والأسطورة والفن والدين جوانب من عالمه المعنوي. ومن هذه الخيوط المنوَّعة يغزل الميلودي لغته وعالمه الرمزي، ذلك النسيج المعقد المستقي من تجربته الإنسانية”.
لقد أثرت هذه اللغة الفنية المميزة على الإبداع التشكيلي في المغرب ورفعت الحسين الميلودي إلى مرتبة بين الرسامين الأكثر شهرة في المغرب، وهي شهرة ساهمت فيها مدينة الصويرة بالكثير من الأشكال والدعامات (مثل الخشب والجلد على وجه الخصوص) التي قدمها الميلودي منذ نهاية الستينات في مجمل أعماله.
والراحل الميلودي حاصل منذ عام 2004 على وسام الكفاءة الفكرية من قبل العاهل المغربي الملك محمد السادس. كما حاز أيضا جائزة المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في باريس.
وتحضر سيرة الفنان المغربي وأعماله في العديد من الكتب عن الفن التشكيلي، بما في ذلك الطبعة الثالثة من كتاب “من الذي في تصميم الغرافيك” (Who’s Who in Graphic Design)، الذي نُشر في زيورخ (سويسرا)، والذي يجمع لمحات عن 300 من قادة فنون الرسم في 46 دولة حول العالم.
والفنان المغربي، رغم انطوائه في الصويرة والتزامه باقتباس أعماله من الحياة في بلاده، إلا أنه يسير كما هو حال الفن التشكيلي المعاصر في المغرب، فهو لا ينفصل عن التجربة العربية بل كان واحدا ممن ساهموا في إشعاع الفن المغربي المعاصر، ونهل من مدارس أخرى زادت حتما من سرعة انتشاره.
ودخلت أعمال الميلودي العديد من المجموعات المرموقة بما في ذلك القصر الملكي في إسبانيا، ومجموعة ميريل سي بيرمان (الولايات المتحدة) ومؤسسة أونا (المغرب)، بالإضافة إلى العديد من المجموعات الخاصة في المغرب وإسبانيا وتونس والعراق ولبنان وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبلجيكا وبولندا.