المعارضة التونسية واستضعاف الدولة

ما حدث في ملف البحيري ليس غير صورة من واقع عام تستقوي فيه المعارضة بكل ما لديها من أدوات بما في ذلك الجرأة على التعدي على مؤسسات الدولة لاستضعاف السلطات القائمة.
الأربعاء 2022/01/05
استقواء المعارضة

هجوم هيئة الدفاع عن القيادي بحركة النهضة نورالدين البحيري على أحد مراكز الأمن بمدينة منزل جميل من محافظة بنزرت التونسية مساء الثاني من يناير 2022، كان تعبيرا واضحا على ثقافة الاستهانة بالدولة لدى جانب مهم من النخب السياسية والحقوقية في البلاد المفتوحة على كل الاحتمالات، ولاسيما في ظل المواجهة المفتوحة بين الإخوان وحلفائهم من جهة والرئيس قيس سعيد وأجهزة الدولة من جهة ثانية.

في الحادي والثلاثين من ديسمبر الماضي قامت قوة أمنية بإيقاف البحيري ونقله إلى مكان مجهول يخضع فيه للإقامة الجبرية رفقة المسؤول السابق بوزارة الداخلية فتحي البلدي، ويبدو أن حالة الارتباك الرسمي التي صاحبت تلك الواقعة، أعطت للإخوان فرصة تحويلها إلى حدث مهم غطى على بقية الأحداث في البلاد، ووضعته وسائل الإعلام المعروفة بتحالفها مع الإسلام السياسي على رأس اهتماماتها لتشكل منه ملامح إدانة مباشرة للنظام الحالي وللسلطات القائمة بقيادة الرئيس سعيد.

انصب الاهتمام على شخصية البحيري، مع تجاهل متعمد للبلدي باعتباره شخصية أمنية يرفض الإخوان ربط تحركاتها بهم، كما تم التركيز على الجانب الإنساني في المسألة بالاعتماد على سيناريو مليء بالمشهديات المتخيلة أو المقتبسة من وقائع حقيقية (اختطاف البحيري، وتعنيف زوجته، ثم نقله إلى مكان مجهول، وحرمانه من الأدوية الضرورية لعدد من الأمراض المزمنة التي يعاني منها، ثم الاكتشاف المفاجئ لمكان إقامته الجبرية، ومزاعم حول إصابته بجلطة، فالهجوم على مركز الأمن من قبل المحامين وفي مقدمتهم زوجته سعيدة العكرمي، وما صاحب ذلك من تغطية إعلامية واسعة).

ليس من الصعب على أي طرف معارض ميّال إلى نزعة التمرد، أن يربك السير العام للدولة بتجيير أخطائها لفائدته، وتقديم نفسه في صورة الضحية ليس لمجتمع الداخل فحسب، ولكن للمجتمع الدولي وبخاصة للمنظمات الحقوقية في الدول الغربية التي تمثّل مراكز نفوذ مؤثرة على سياسات الحكومات، وتتميز بقدرتها الفائقة على اختراق الدول والمجتمعات عبر ذات تلك النخب التي نراها تفتعل مواجهات مع سلطات بلدانها لترويج صورتها وفتح ثغرات في جدار الواقع تتمكن من خلالها من حجز مقعد في المشهد السياسي والاجتماعي.

يجد الرئيس سعيد نفسه أمام معارضات شرسة تمتلك أدوات التحريض على مشروعه، وتتحرك بسهولة كاملة في كل الاتجاهات، وهي متحدة في أهدافها، وقد تبين ذلك من خلال حركاتها الاحتجاجية

يواجه النظام التونسي الحالي تحديات كبرى أمام تحالف معارضات متعددة التوجهات ومختلفة المرجعيات المتراوحة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، في صورة تعيد عكس الأوضاع التي عرفتها البلاد في العشرية الثانية من حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ولاسيما من خلال حركة الثامن عشر من أكتوبر 2005 التي اجتمع فيها إسلاميون وشيوعيون وقوميون وحقوقيون لينفذوا إضرابا عن الطعام، كان الهدف الأول منه إحراج النظام والدفع بعدد من قادة الدول إلى التراجع عن المشاركة في القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي كانت تونس تستعد لاحتضانها في منتصف نوفمبر من ذلك العام، فقد كانت مصلحة البلاد وصورتها بالنسبة إلى أولئك المعارضين مجرد أداة للضغط على السلطة، ولتحقيق أهدافهم السياسية التي انكشف بعد 2011 أنها مجرد تداعيات مراهقاتية بأغطية شعاراتية وحسابات شخصية وفئوية أدت إلى شبه انهيار شامل للبلاد ماليا واقتصاديا مع أزمات سياسية واجتماعية متفاقمة لا تزال تلقي بظلالها على  الدولة والمجتمع.

في الخامس والعشرين من يوليو 2022 أعلن الرئيس سعيد عن جملة من التدابير الاستثنائية أبرزها حل حكومة هشام المشيشي وتعليق عمل وصلاحيات مجلس النواب ورفع الحصانة عن أعضائه، وفي الثاني والعشرين من سبتمبر أصدر الأمر الرئاسي 117 الذي وضع جميع السلطات بيد الرئيس بهدف تنفيذ ما يراه هو ومناصروه خطة للإصلاح وتصحيح المسار، وما يراه معارضوه انقلابا على الدستور والشرعية وسيرا في طريق الاستبداد والتفرد بالسلطة بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد.

يجد الرئيس سعيد نفسه أمام معارضات شرسة تمتلك أدوات التحريض على مشروعه، وتتحرك بسهولة كاملة في كل الاتجاهات، وهي متحدة في أهدافها، وقد تبين ذلك من خلال حركاتها الاحتجاجية، ومنها إضراب الجوع الذي شارك فيه عدد من قيادات اليسار واليمين والوسط، وزاره زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان المجمّد راشد الغنوشي مبديا التأييد والمساندة للمحتجين ومن بينهم شيخ اليسار الماركسي عزالدين الحزقي، ليتجدد مشهد تجمّع مختلف التناقضات الأيديولوجية والسياسية والثقافية المعادي سابقا لنظام بن علي في وضعية مستحدثة لاستهداف الرئيس الحالي  سعيد الذي وإن كان يحظى بدعم شعبي كبير، إلا أنه يتعرض لحملة تجييش ضده، ينفذها من يرون أنهم فقدوا مواقعهم لما قبل الخامس والعشرين من يوليو أو أن رهاناتهم السياسية أضحت في مهب الريح، وكذلك من كان قد أدركهم الموات السياسي فوجدوا في تحدّي سعيّد فرصة لإحياء أسمائهم والعودة إلى واجهة الأحداث والتغطيات الإعلامية، ومن بينهم مثلا الرئيس المؤقت الأسبق منصف المرزوقي.

يجد الرئيس سعيد اليوم نفسه أمام قوم يحترفون المعارضة، ويعرفون كيف يستثمرونها في تحقيق فوائد وفوائض، وأغلبهم من أصحاب العلاقات التقليدية مع السفارات الأجنبية ومع حكومات وأجهزة الكثير من الدول ومنصات الإعلام الفاعلة، وممن يشتغلون على فكرة يعرفون أنها تجد صدى في الخارج، وهي وحدة مختلف التيارات والقوى والأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والحقوقية تحت هدف واحد وهو مقارعة الاستبداد والدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحصين أول تجربة ديمقراطية حقيقية في المنطقة العربية من عودة الدكتاتورية، بينما يجد النظام نفسه أمام مشكلة حقيقية: فلا هو يستطيع أن يكون ديمقراطيا بشكل كامل نتيجة الظروف الراهنة التي تفرضها التدابير الاستثنائية، ولا هو يستطيع أن يكون دكتاتوريا نظرا للضغط المحلي وتسليط الأضواء الخارجية على جميع التحركات الداخلية، ولا هو يستطيع أن يغمض عينيه على المؤامرات التي تحاك ضد الدولة والمجتمع والسلم الأهلي، ولا هو يستطيع ملاحقة المتآمرين واعتقال المخربين ومقاضاة من كانوا مسؤولين على وضع البلاد خلال العشرية الماضية وأصبحوا معارضين يتسترون بصفاتهم السياسية للتغطية على ملفاتهم الجنائية.

ولعل ما حدث في ملف البحيري ليس غير صورة من واقع عام تستقوي فيه المعارضة بكل ما لديها من أدوات، بما في ذلك الجرأة على التعدي على مؤسسات وأجهزة الدولة، لاستضعاف السلطات القائمة، وهو ما يشكّل أشرس المخاطر التي قد تضرب المجتمع في العمق، وتدفع به نحو الفوضى والانفلات، فمهمة الدولة أن تظهر جدارتها بقوتها، وأن تفرض هيبتها بتأكيد أحقيتها في تطبيق القانون واحتكار القوة وشرعية العنف، لتستطيع بذلك بسط الأمن والاستقرار وتحصين المجتمع من التفكك والانقسام.

9