المصور الإيطالي ماسّيمو باتشيفيكو: أنا مصور أنثروبولوجي

“مولع بالشرق”، كفنان إنساني النزعة، وليس على طريقة المرسلين من قبل الجمعيات والمؤسسات الاستشراقية، الذين طالما كانت لهم أهداف وتطلعات مرتبطة بتلك المؤسسات المنتشرة في الغرب منذ قرنين على الاقل. هذا هو المصور الإيطالي ماسّيمو باتشيفيكو الذي أقام مؤخرا معرضا جديدا له في فلورنسا، وحضره حشد كبير من عشاق فن التصوير، والرحالة، والصحافيين والأدباء الإيطاليين والقليل من العرب المهتمين بالثقافة وفن التصوير.
“هناك صورة التقطتها ذات مرة في سوق شعبي في الجزائر، تحولت في ما بعد إلى واحدة من أهم الصور في مسيرتي المهنية، وكانت بالنسبة لي مُفتتحا في مسار طويل لمهنتي كصحافي ومصوّر”. لقد انقضت أربعون سنة تقريبا على التقاط تلك الصورة في السوق الشعبي لمدينة غرداية الجزائريّة الجنوبيّة، لكن ماسّيمو باتشيفيكو لا ينسى أهميتها في حياته المهنيّة “كان عام 1982، وكنت قد أقمت معرضا عنوانه ‘ساحة غاريبالدي’ وعن النُصب والتماثيل المُقامة في إقليم توسكانا، والتي تتناول شخصيّته وتاريخه ودوره في الوحدة الإيطالية، وجاء المعرض للاحتفاء بالذكرى المئوية لوفاة غاريبالدي، فطلب منّي مدير المعهد الثقافي الإيطالي في الجزائر حول إمكانية نقل المعرض إلى الجرائر، وأعلمني بأنّ شخصية غاريبالدي تحظى بالاهتمام في ذلك البلد، فقبلت تلك الدعوة بسرور كبير ونقلنا المعرض إلى العاصمة الجزائرية“.
الرحلة الجزائرية
عندما وصل باتشيفيكو إلى العاصمة الجزائرية، دُعيَ إلى زيارة واحة غرداية وأربع مدن أخرى “كانت تلك مدن جنوب الجزائر التي تُعتبر بمثابة بوابات للصحراء الأفريقية“، كما يقول ماسّيمو پاتشيفيكو ”وكانت غرداية أيضا المدينة وعمارة المساجد فيها، ما ألهم المعماري السويسري الفرنسي لو كوربوزييه الذي توقّف كثيرا في مسجد المقبرة المحلية. وفي غرداية، وبالإضافة إلى البنى المعمارية الصغيرة والجميلة، انجذبت كثيرا إلى السوق الشعبي في المدينة والذي كان الفضاء الجامع لبشريّة واسعة ومنوّعة، والتقطت العديد من الصور. وصادف أن قرّرت مجلّة ‘ويك إيند الرحلات’ بعد ذلك بفترة قصيرة، نشر ريبورتاجات تحقيقيّة عن الأسواق العربية.
كنت أتعاون مع المجلة في ذلك الوقت، وكانت واحدة من أهم المجلات المتخصّصة في مجال السياحة، فسألني مديرها ما إذا كنت أمتلك صورا عن موضوع التحقيق، وكانت الصور موجودة لديّ، فقد التقطتها في غرداية بالذات، ونالت إعجاب محرّري الجريدة واختيرت لتكون مُفتتحا للعدد والمادة الأساسية فيه. وأتاح لي ذلك، خلال وقت قصير أن أُصبح الموفد الخاص لتلك المجلة، واستمر التعاون ما بيننا لما يربو على عشر سنوات، ولذا فأنا مدينٌ إلى تلك السوق الجزائرية بقسط كبير من مهنيّتي الاحترافيّة“.
العالم العربي والهند
يقول ماسّيمو باتشيفيكو إنّ العالم العربي والهند وألمانيا هي الأماكن التي هيمنت على اهتمامه لأسباب جمالية وعاطفية (پاتشيفيكو متزوجٌ من سيّدة ألمانية) يقول “امتلكت هذه البلاد دائما حضورا بارزا في مسيرتي المهنية، لكن شبه القارّة الهندية تظل المكان الذي لن أتعب أبدا من زيارته وتصويره، فأي ركن من أركان هذه الأرض يكتنز دائما مفاجأة رائعة كما لو أنّ هناك يدين تُمسكان بوجهك لتُديراه صوب صورة شخصية أو شيء ما، وأنت، كمراقب، ليس عليك إلاّ الضغط على زر التصوير لتخليد تلك اللحظة في الأبدية”.
وعن ولعه بالشرق، يقول ماسّيمو پاتشيفيكو “رغم أنني عملت كثيرا في الغرب، وخاصة في أميركا الشمالية، فقد كنت دائم الانجذاب إلى الشرق بدلا من الغرب، وكان الشرق الأوسط في صُلب اهتماماتي خلال الدراسة الجامعية، وأعددت أطروحتي للتخرّج من الجامعة عن التحالفات العسكرية والاستراتيجيّة في المنطقة، بدءا من ‘حلف بغداد’، لكن الخطوة الأهم بالفعل تحقّقت عندما اتسع فضاء اهتمامي بالشرق الأوسط ليشمل الشرق بأسره“.
وعن الهند بصورة خاصة، يقول پاتشيفيكو ”إنّ هذا البلد الاستثنائي، أي الهند، شبه القارة الحقيقية التي زرتها عدة مرات، ربّما لأكثر من 12 مرّة، في محاولة لفهم الفلسفة التي يقوم عليها، بدءا من الشمال البوذي، وصولا إلى أقصى الجنوب الهند في مناطق تاميل نادو“.
مصوّر أنثروبولوجي
الأماكن والأشياء، وقبل كل شيء الكائن البشري هو ما يجذب انتباه پاتشيفيكو “نعم، إنه الكائن البشري، موضوعي المفضّل“، يقول الفنان ”وبالذات ما يختصّ الآصرة ما بين الإنسان وحاوياته، وهي ما أعني بها الأماكن التي يقطنها الإنسان والمدن“، ويُضيف “لقد أنجزت خدمات وريبورتاجات في الصحارى وريبورتاجات عن الطبيعة في أفريقيا وآسيا، لكن جميع تلك الخدمات أُنجزت بناء على تكليف مهني، في حين أن ما أفعله تلقائيا هو محاولةٌ، إنْ صحّ التعبير، لتخليد الحالات والأشياء في لحظةٍ ما من حياتها، ويدور كلّ ذلك حول الإنسان الذي له أهمية أساسية بالنسبة لي”.
الإنسان عنده هو ذلك الكائن المرتبط بلحظات جميلة في تاريخ البشرية، وهو، بالتالي، البطل الرئيسي في آخر معرض للصور الفوتوغرافية لماسّيمو باتشيفيكو والمقام في متحف «مارينو ماريني» في فلورنس. يقول پاتشيفيكو عن أعماله المعروضة ”اخترت أربعين صورة من بين الآلاف التي التقطتها في السنوات العشرين الأخيرة خلال زياراتي للمتاحف في العالم“. ويُضيف “هناك صورٌ موجودة في معرضي اليوم التُقطت للمتفرجين في عدد من أهم المتاحف على هذا الكوكب، كالمتحف الوطني، ومتحف فيكتوريا وألبرت في لندن، ومتحف الپيرغامون في برلين، والمتاحف الرومانية، ومتحف ريجكسميوزيم في أمستردام، وغيرها الكثير“.
وتُثبّت الصور المعروضة آصرة زائر المُتحف مع ما هو معروض أمامه. وليست الآصرة التي يعرضها پاتشيفيكو في صوره الأربعين بالضرورة تلك المعنيّة بمشاهدة العمل المُعلّق على جدار المتحف أو المعروض في صالة من صالاته، بل ما ينتج عن الوجود في المكان وعن التعامل مع ذلك المكان. إنّه أشبه ما يكون بـ«مشاهدة من يُشاهد عملا ما ويتعايش معه“.
أماكن مقدسة
يقول پاتشيفيكو ”يهدف المعرض إلى أن يكون مناسبة للتفكير في ما يحدث في هذه الأماكن التي أعتبرها مُقدّسة، وهي أماكن ترقص فيها الموسيقى حيث يقترن الفن بطاقة متحرّرة، لا شبيه لها“.
لا يقتصر وجود الإنسان على منح فقط الحركة إلى الأشياء الساكنة، بل يُعطيها البعد والعمق أيضا، ”وهذا أمر أساسي للغاية“ يقول ماسّيمو پاتشيفيكو، ”ما أتحدث عنه هو ما أدركه المصورون الفوتوغرافيون في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عندما سمحت لهم التقنيات بإدخال الكائن البشري في الصور الفوتوغرافية، فأعطى هذا الكائن البشري الانطباع الحقيقي عن حجم ومساحة وعمق المكان الذي التُقطت فيه تلك الصور“.
وحين نسأل ماسّيمو پاتشيفيكو أن يُعرّف لنا مهنته، وما إذا كان يعتبر نفسه مُصوّرا أم صحافيا أم أنثروبولوجيّا يُجيب ”أنا أعتبر مهنتي بمثابة آنثرو-تصوير.. وهي عملية بحث أنثروبولوجية لن تنتهي ولن تتوقّف أبدا“.