المصري مصطفى عيسى يحتفي أنطولوجيّا بالإنسان والحيوان والنبات

الفنان المصري يعتبر أن فكرة الذاكرة واستحضارها للبعيد المتواري في منطقة ما يمدّ الآخرين بطاقة إيجابية.
الاثنين 2021/10/25
لكل منا جذور: البشر والنبات والحيوان

القاهرة – يتواصل حتى الثلاثين من أكتوبر الجاري بقاعة الباب سليم ساحة متحف الفن المصري الحديث بدار الأوبرا بالقاهرة، معرض الفنان والناقد التشكيلي المصري مصطفى عيسى المعنون بـ”جذور”.

وحول فلسفة العرض يقول عيسى “يبقى في عنوان الجذور ثمة شيء هام يتعلق بفكرة الذاكرة واستحضارها للبعيد المتواري في منطقة قد يراها البعض مُطفأة وغير منظورة، إذ أن الجذر الحيّ يمدّ الآخرين بطاقة إيجابية نطالعها في علاقة حميمة بين المرء وما يحيط به من خضرة لها جذر يمتدّ في الأسفل عميقا، يبقى ما في الأعلى بمثابة تعبير عن الحياة التي يوضع فيها جسده ويتحرّك. إنه بُعد أنطولوجي بجدارة طفق يبني نستولوجيا محسوسة وجديرة بالانتباه في ما بين البشر وما يحيط بهم.. فلكل منا جذور: البشر والنباتات والحيوان على حد سواء”.

ويضيف “في الإطار قد أستدرج طائر الهدهد، كونه يحمل من الذكرى قدرا لا بأس به، ولا يزال الرمز يطوف عنده، بروح من سيرة الجمعي والتاريخي، أرى أن الرمز لا يزال يطوف به، من حيث يبرّر جانبه الديني حبنا لطائر ميّزه ذكاءه وجماله. هل ثمة علاقة بين حضور شجرة عتيقة وبين رواح طائر حمل رسالة، ربما؟ ففي الفن قد تمثل الاحتمالات وجودا قابلا للتحقّق، وعلينا أن نتيقن من ذلك”.

اشتغال رمزي على طائر الهدهد وما ينطوي عليه من تأويلات ميثولوجية عديدة بالغة التقديس والتجذّر في الوعي الشعبي

وينحاز التشكيلي المصري في رؤيته الفنية إلى استلهام الحلم ورموزه كحالة تزاوج بين ما هو خاص وما هو عام من خلال المفردة العضوية بشكل عام والإنسان بشكل خاص، وبين ما هو هندسي في بناء العمل الفني. ومن ثم فهي رؤية تجنح إلى التعبيرية التجريدية أكثر ممّا تأخذ من السريالية.

وللأدب والشعر تأثير خاص ينعكس بشكل واضح على رؤية الفنان المصري المخضرم، كذلك فن السينما في ما يخصّ المونتاج ويدخل في إطار البناء والتعامل مع المفردة في علاقاتها بغيرها وعلاقاتها بالفراغ. ثم الموسيقى التي لها تأثير مواز في تجربته الإبداعية. أما الإنسان داخله وخارجه فهو المعطى الأول والمحرّك إلى دخول التجربة الفنية، وبالمثل هناك وجود آخر للطبيعة المصرية على تنوعّها حيث تمهّد لاكتشاف ما هو متوار في بحثه المستدام عن معطى مادي على سطح العمل الفني.

وعنه يقول الناقد الفني والفنان التشكيلي المغربي إبراهيم الحيْسن “بديناميكية فنية متجدِدة، اشتغل عيسى ولا يزال يشتغل على الحفر في ثنايا المادة واللون بعشق إبداعي نادر تنخرط فيه كل المشاعر والحواس والمخيّلة محتميا في ذلك بتاريخ فني حافل بالعطاء والإنتاج المثمر على امتداد سنوات”.

وهو الذي تناول في تجربة صباغية سابقة ثيمة الوطن مجازيا، لكن بتجريدية صدَّاحة تعبيرية تمتح خصوصياتها البصرية والجمالية من بلاغة اللون وصلابة المادة وسُمكها، وذلك باستعمال خامات ومواد متنوِّعة مكوَّنة من قصاصات الصحف وشرائح الخشب وخلائط الجبس والإسمنت وصبغات الأكريليك التي يتمّ إدماجها وتثبيتها مفاهيميا بأسلوب التغرية والكولاج ما يمنح السطح أوجها ملمسية كثيرة مفتوحة على تعدُّد القراءات والتأويلات.

ويضيف الحيْسن “في تجربة صباغية أخرى ممتدّة أبرزت أن عيسى يؤمن إيمانا قاطعا بأن ‘من يحب الشجرة يحب الأغصان’، كما في قول الكاتب المسرحي موليير، لذلك تمضي رهاناته في هذه التجربة الفنية قدما في الحفر في التاريخ الثقافي الإنساني وفي ذاكرة البيئة من خلال بعض عناصرها ومكوِّناتها التي تنهض على معاني العطاء والخصوبة، من ذلك اشتغاله على شجرة الجميز التي عرفها الناس منذ ميلاد الإنسان، وهي بذلك ترمز إلى الصمود والبقاء والألوهية، وقد ارتبط بها الفراعنة كثيرا، حيث جسَد هذا الارتباط أهم العلاقات التي نسجها البشر مع الشجر”.

لوحات عيسى تؤكّد أن فكرة الذاكرة واستحضارها للبعيد المتواري في منطقة ما يمدّ الآخرين بطاقة إيجابية
لوحات عيسى تؤكّد أن فكرة الذاكرة واستحضارها للبعيد المتواري في منطقة ما يمدّ الآخرين بطاقة إيجابية

ولأن هذه الشجرة المعمِّرة ارتبطت طويلا بالفكر المصري القديم، فإن عيسى جعل منها في لوحاته الصباغية صورة أخرى لهذا الفكر الإنساني الممتّد، حيث تأتي لوحاته محملة بالكثير من الإشارات التشكيلية احتفاء بجزء من موروثه البيئي، بأسلوب صباغي نادر يثير الدهشة والانبهار، وفي عمقه تتناسل المفردات الفنية واللمسات اللونية الواثقة الدَالة على اندماج مقاصد الفنان بوصفها محاكاة داخلية لذاكرة مشتركة. زد على ذلك اشتغاله الرمزي على طائر الهدهد بألوانه المرقطة وبما ينطوي عليه من تجليات وتأويلات ميثولوجية عديدة بالغة “التقديس” والتجذّر في الوعي الشعبي.

ومصطفى عيسى من مواليد العام 1955 بكفر الدوار محافظة البحيرة، حاصل على بكالوريوس فنون جميلة 1979، قسم التصوير، ضمن أول دفعة بتقدير عام جيد جدا بجامعة حلوان، كما حصل على دكتوراه الفلسفة في الفنون الجميلة من جامعة الإسكندرية في العام 2000، بعنوان “استلهام رمزية الحلم في فن التصوير المصري المعاصر”.

شارك في ما يزيد على مئة وخمسين معرضا جماعيا داخل مصر وخارجها، وله خمسة عشر معرضا خاصا، منها “جماليات الحلم”، و”نتوءات الجسد”، وآخرها “وطن لا يصدأ”.

كما شارك في أكثر من فعالية دولية داخل مصر وخارجها، ونال العديد من الجوائز وشهادات التقدير مثل الجائزة الكبرى في بينالي بورسعيد عام 1998، وميدالية المشاركة في المعرض القومي عام 1988، والجائزة الأولى في التصوير في معرض القطع الصغيرة عام 1999، والجائزة الأولى في التصوير في مسابقة مصر المستقبل في العام ذاته، والعديد من شهادات التقدير عن مساهمات عديدة في معارض جماعية، ويقتني أعماله متاحف ومؤسسات وأفراد في مصر وعدد من دول العالم.

كما صدر له كتاب “الحلم في فن التصوير” عام 2001 ضمن إصدارات سلسلة “آفاق الفن التشكيلي” بهيئة قصور الثقافة المصرية، وله دراسة تحت عنوان “متواليات الطمي واللون”، وأخرى عن “صورة الفلاح المصري في فن التصوير” أصدرتها مجلة “أمكنة” في العام 2002.

15