المشاركة المتدنية في الانتخابات التشريعية انتكاسة لن تغير في مسار الرئيس التونسي

مثلت المشاركة الضعيفة في الانتخابات التشريعية مادة دسمة للمعارضة التونسية لمهاجمة الرئيس قيس سعيّد ومشروعه السياسي، والتشكيك في شرعيته، لكن مراقبين يرون أن المعارضة الحالية أعجز من أن توظف عمليا نتائج الاستحقاق، في ظل استمرار رفض الشارع لها.
تونس - شكلت المشاركة المتدنية للغاية التي بلغت 8.8 في المئة في الانتخابات التشريعية في تونس انتكاسة للرئيس قيس سعيّد والمسار الذي بدأه في الخامس والعشرين من يوليو 2021، لكن من غير المرجح أن يؤثر ذلك بشكل كبير على مجريات الأمور في البلاد، كما تأمل قوى المعارضة.
وفي نظر المعارضة فإن الانتخابات التي جرت السبت الماضي هي الأقل إقبالا على الإطلاق في تاريخ البلاد، حتى أقل من معدل التضخم البالغ 9.8 في المئة، وأن نسبة المشاركة أزالت أي واجهة للشرعية الديمقراطية لمشروع الرئيس سعيّد السياسي، وهي الآن تدعو بشكل مباشر إلى رحيله.
وتعتقد المعارضة أن التصويت الذي جرى يعكس تحولا “مزلزلا” في موقف الشارع التونسي حيال الرئيس سعيّد ومشروعه، لكن هذه القراءة تبدو وفق مراقبين مبالغا فيها، حيث إن عوامل عديدة أدت إلى هذا العزوف عن مكاتب الاقتراع، لعل أهمها عدم معرفة الناخبين لمعظم الوجوه المتقدمة للاستحقاق، فضلا عن الحملة الانتخابية الباهتة، إلى جانب الثغرات الكثيرة التي تضمنها القانون الانتخابي والذي انتهى بعدم وجود مرشحين في بعض الدوائر، واقتصار دوائر أخرى على مرشح وحيد، وبالتالي فوزه آليا بمقعد في البرلمان.
ويشير المراقبون إلى أن من الدوافع الأساسية التي أفزرت هذه المشاركة الضعيفة أيضا هو وجود قناعة حتى لدى أولئك الذين يدعمون الرئيس التونسي بأن البرلمان الجديد محدود الصلاحيات، وبالتالي فإنه لا جدوى من الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
ويلفت هؤلاء إلى أن على الرغم من بروز تململ في الشارع التونسي حيال الوضع الاقتصادي الصعب، لكن ذلك لا يعني أن الشارع مستعد للالتفاف حول المعارضة الحالية، لاسيما تلك التي قادت المنظومة السابقة، والتي شكلت سببا رئيسيا في ما آلات إليه الأوضاع في البلاد.
ووصف رئيس حزب الائتلاف الوطني التونسي ناجي جلّول نتائج الانتخابات التشريعية بـ”الهزيلة”، لافتا في الآن ذاته إلى أن “هناك عدة محطات انتخابية في السنوات العشر الأخيرة دون إنجازات، والديمقراطية تعني الرفاه، لكن الآن الديمقراطية اقترنت بالجوع، وهذه معادلة صعبة”.
وأضاف وزير التربية الأسبق في تصريحات لـ”العرب” أن ما حصل في يوم الانتخابات “ليس مقاطعة، بل عزوف، ذلك أن الشعب التونسي لفظ الطبقة السياسية برمّتها، وهذه نتيجة منتظرة جدا”.
واستبعد جلول، الذي لا يخفي تحفظاته على المسار الحالي، أن تنجح المعارضة في توظيف تلك النتائج لفائدتها لأن الناس صوّتوا ضدّ السلطة والمعارضة معا، لافتا إلى أن حركة النهضة الإسلامية هي المسؤولة الرئيسية عن تردي الوضع الحالي.
ومع مواجهة تونس لأزمة اقتصادية وبينما توشك المالية العامة للدولة على الانهيار وتزيد الحاجة إلى خطة إنقاذ خارجية تتطلب تخفيضات ضخمة في الإنفاق العام، من المتوقع أن تزداد حدة التوتر السياسي على كل من سعيّد وخصومه.
وكانت انتخابات السبت لاختيار هيئة تشريعية بلا مخالب في معظمها، وهي جزء من مسار سياسي بدأه سعيّد منذ أن سيطر على معظم السلطات وجمد البرلمان السابق في يوليو 2021.
واعتمد مشروعه لإعادة تشكيل النظام السياسي على الشرعية الشعبية التي لاحت من فوز ساحق في انتخابات 2019 ضد قطب إعلامي يواجه تهما بالفساد، واحتفالات عفوية في الشوارع عندما أغلق البرلمان.
وبحسب سعيّد، لم تكن تحركاته قانونية فحسب، بل كانت ضرورية لإنقاذ تونس من أزمة وطنية رهيبة خلقها القادة السياسيون أنفسهم الذين يشكلون الآن المعارضة الرئيسية.
ومع ذلك، عندما كتب دستورا جديدا هذا العام وطرحه للاستفتاء، شارك حوالي 30 في المئة فقط من الناخبين المؤهلين. وعزز الإقبال الضعيف السبت إلى حد كبير التصور بأن الدعم الشعبي لخططه بدأ في التراجع.
واعتبر رئيس حزب الائتلاف الوطني أنه “لا بدّ من حوار وطني حقيقي لمعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ويكمل الرئيس مدته النيابية حتى 2024 بصلاحيات دستور 2014”.
ويرى جلول أن “مسار الخامس والعشرين من يوليو انتهى وسعيّد انتهى كرئيس يحكم بالمراسيم، وعلى الجميع أن يفهم أن الشعب لفظ الكلّ”.
وبصفته سياسيا مستقلا، يفتقر سعيّد إلى الدعم من جهاز حزبي يمكنه من التعبئة لصالحه، ويقول أنصاره إنه الوحيد الذي يحارب ماكينات الإعلام ورجال الأعمال. كما أنه أبعد الحلفاء المحتملين، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل صاحب التأثير القوي والحزب الدستوري الحر، من خلال رفضه إدراجهم في خططه وتمسكه بخطط شعارها “الشعب يريد“.
وأفاد الناشط السياسي المنذر ثابت بأن “هناك تأثيرا مباشرا لنتائج الانتخابات، لاسيما وأن الصورة في الخارج، في علاقة بالخامس والعشرين من يوليو، مشروخة، وكمحصلة عامة تؤكّد تلك النتائج توسيع الرفض الشعبي للعملية السياسية برمتها ومقاطعتها”.
وقال ثابت في تصريحات لـ”العرب” إن “الشارع لديه هموم أكثر أهمية وهي معيشية بالأساس، والرأي العام لا يرى أي أفق في علاقة بالمستقبل، وتوجد استقالة بالهجرة واستقالة بالعزوف عن الانتخابات”، لافتا إلى أن “سعيّد اقتحم مواجهة مع أحزاب متمرسة دون أن تكون له دراية بذلك، كما أن تفاصيل القانون الانتخابي أفرغت العملية الانتخابية من كل التوجهات الهادفة (التزكيات والتمويل الذاتي..)”.
وأوضح ثابت أن “المسألة مرتهنة بالوضع الاجتماعي والاقتصادي، وسعيّد عليه أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، وأي هزّة اجتماعية ستكون انعكاساتها سلبية جدا”.
وبخصوص إمكانية استغلال المعارضة لتلك النتائج وتوظيفها، قال ثابت “إنها ستسعى لذلك وهي في وضع مريح نسبيا، وستحاول حركة النهضة العودة بطريقة جزئية وستكون حذرة بعدم إثارة ردّة فعل”.
وأردف الناشط السياسي “مسار الخامس والعشرين من يوليو رهين الطرح المضاد وسيستمر حتّى وإن ضعف”.
المعارضة تعتقد أن التصويت الذي جرى يعكس تحولا “مزلزلا” في موقف الشارع التونسي حيال الرئيس سعيّد ومشروعه
والمعارضة السياسية، التي تستشعر انتصارا في هذه المحطة، لديها معضلات تبدو مزمنة. فالعديد من قادتها لا يتمتعون بشعبية بسبب الشلل السياسي والركود الاقتصادي واتهامات شعبية لهم بخدمة مصالح ذاتية فقط عندما كانوا في الحكم. وهي منقسمة بين أحزاب تزدري بعضها البعض بقدر رفضها لسعيّد.
ولم تظهر المعارضة قدرة عالية على تعبئة الاحتجاجات الجماهيرية في الشوارع التي تقول إنها تؤيدها.
ومع ذلك، يشعر خصوم سعيّد بتقدم على حسابه. وطالب تحالف “جبهة الخلاص” الأحد الرئيس التونسي بالتنحي.
وقال الحزب الدستوري الحر المعارض الذي يحظى بشعبية واسعة نفس الشيء، حيث دعا إلى إعلان شغور منصب الرئيس.
ويخشى التونسيون من أن البلاد تتجه نحو المزيد من التوتر السياسي، في الوقت الذي تشهد فيه تدهورا اقتصاديا حادا لا يمكن التكهن بمآلاته، مع ضبابية المفاوضات الدائرة بين تونس وصندوق النقد الدولي.
وتحذر وكالات التصنيف الائتماني من إمكانية تخلف الحكومة عن سداد الديون السيادية، وهو أمر قد يتسبب على الفور في معاناة هائلة، وقد يثير غضبا شديدا في الأوساط الشعبية.
وفشلت الحكومات الائتلافية المتعاقبة في إيجاد حل للمالية العامة يمكن أن يرضي المقرضين دون إثارة ردود فعل محلية غير قابلة للرد.
وبينما يتجرع أنصار الرئيس مرارة انتخابات برلمانية على الرغم من كونهم توقعوها، يرجح أن تكون أي خطوات اقتصادية اجتماعية مؤلمة مقبلة اختبارا لمتانة شعبية لطالما كانت ذخيرته المدجج بها في مواجهة خصومه.