المسافة الملغومة بين رومانسية الأديب والفخ الجيوسياسي

مع اقتراب العام من نهايته، يجدر بالمتتبع للنشاط الثقافي في الولايات المتحدة التوقف عند بعض الظواهر التي شكلت علامات ما تشير إلى بدايات اهتمام بالتعبير الأدبي والثقافي الصادرين عن ثقافات وبلدان ما سمّي بــ”الربيع العربي”.
وقفتنا هنا مع مشروع أعلن عنه في وقت سابق من هذا العام في جامعة واشنطن في العاصمة الأميركية.
ينبئ النص الأدبي والمنتج الفني لأيّ دولة عن انتصاراتها ومباهجها، عقباتها ومآزقها. بمقدورهما تعريف بلد وتأويل مواقف مواطنيه واتجاهاتهم الفكرية. إنهما مرآة، إن صقِل زجاجُها، أبدعت دون كذب. وفي حال الشأن السوري المعاصر تنم المفردات الثقافية عن الهزائم والثورات، تحاول أن تستوعب الملغز، تداوي دون اختلاق الحجج، تفضح الطغاة وتتخيل سقوطهم المدوي.
تشاركنا الاعتقاد آن-ماري مِكمانِس التي تدرس حالياً منهجاً كاملاً يضم نصوصاً أدبية ومنتجات فنية تنتمي إلى الثقافة السورية. مِكمانِس أستاذة مساعدة في جامعة واشنطن نالت درجة الدكتوراه في الأدب المــقارن من جامعة ييل عام 2013.
كانت مِكمانِس قد كتبت عن أدب السجون والنظرية الجنسانية في الرواية وتوزيع الأدب الرقمي، ونشرت أبحاثاً مطولة عن الأدب السوري المعاصر. وفي سبيلها الآن إلى الانتهاء من كتاب عن الترجمة ما بعد الاستعمارية في الأدب العربي.
|
مصاصة متة
يتضمن منهجها الدراسي الحالي زوايا شتى من الثقافة السورية، ما بين روايات وقصائد وصور فوتوغرافية، أفلام وثائقية وروائية، نصوص اجتماعية وسياسية، بل إنها لم تغفل جملاً كتبها على الفيسبوك السوري الحلبي عبود سعيد المعروف “بأذكى شخص على الفيسبوك”!
أدمجت أيضاً مقاطع فيديو من موقعي يوتيوب وفيميو، وأغلبها يتكل على ما أطلقت عليه “فن الاحتجاج بعد عام 2011″. أحياناً ما تشي المقاطع بالهجاء السياسي، وأحياناً ما تعرض رقصات كالدبكة الثورية من حماة وأغان مثل “بالذبح جيناكم” الذي أنتجته فرقة “بدايات” شاجبة كل من يحاول أن يلعب على الوتر الطائفي.
أضافت كذلك فقرات من عروض “الشبيح الأول” للفرقة السورية “مصاصة متة”. “الشبيح الأول” عمل فني يستغل الدمى للسخرية مما يحدث في سوريا من خلال حلقات مصورة تتناول بنبرة كوميدية الكذب الإعلامي والسياسي الذي يمارسه النظام السوري لتضليل الرأي العام العربي والعالمي ضمن حلقات لا تتجاوز كل منها خمس دقائق.
تم إنتاج معظم مواد المنهج بعد عام 2000 مع أنه يشتمل أيضاً على أدب يعود إلى سبعينات القرن العشرين. ويبدو أن محدودية الأعمال المترجمة حصرت اختيارات مِكمانِس بعض الشيء، ولا سيما حين أرادت أن تختار أعمالاً معاصرة.
سوريا تتكلم
اعتمدت مِكمانِس أيضاً على مجموعتين من المختارات، أولهما “الثقافة تتحدى: استمرار تقاليد الهجاء والفن والنضال من أجل الحرية في سوريا” وثانيهما “سوريا تتحدث: الفن والثقافة من الجبهة”، كما اقتبست جملاً من عدد من المواقع الإلكترونية مثل “كلمات بلا حدود” و”بدايات”.
تأملت مِكمانِس بالمنهج فعلَ الترجمة بوصفه عملية تنطوي على ديناميكيات اقتصادية وسياسية، واستعانت بنصوص تفك الشائك في قضايا الثقافة والطائفة والجنسية، نصوص كتبها أدباء ومفكرون كحسان عباس ورشا عمران. وقد توخت في المجمل انتقاء مصادر كتبها السوريون، لا مقالات بأقلام أكاديميين أميركيين أو أوروبيين.
|
أدوات جديدة
بدأ المنهج من فن الاحتجاج وأدبه بعد عام 2011 ثم عاد زمنياً إلى الوراء. انتقل إلى العقد الأول من هذا القرن، الصادر في خلاله عدد من أهم الروايات السورية باللغة الإنكليزية. وبعدها ألقى نظرة على تأسيس حزب البعث والوضع السوري في عهد حافظ الأسد إبان السبعينات والثمانينات. وفي الجزء الأخير من المنهج، وهو المستمر حالياً، رجع إلى العهد الحاضر.
وفي حوار أجرته معها الصحفية الأميركية مارشا لينكس كوالي في مدونتها المكتوبة باللغة الإنكليزية “الأدب العربي”، أفصحت مِكمانِس عن الغرض من بنية المنهج ذاتها، “إنها رغبتي في أن “يعود” الطلاب إلى الحاضر بأدوات جديدة كي يستوعبوا أثر النقد والذاكرة والإبداع في الأدب والسينما السورية”.
“أردتُ أن ينتهجوا منهجاً يتسم بالاطلاع التاريخي في نظرتهم إلى تجليات عنف الدولة إبان الثمانينات في الروايات على سبيل المثال وأن يتمكنوا من قراءة أعمال أدبية أقل صراحة في “مقاوِمتها” بينما يستغرقون في حوار أوسع عن اللغة والاحتجاج في سوريا بعد عام 2011”.
العنف المبرر
وعندما سألتها كوالي عن أي سوء فهم نتج من جراء المنهج وما حرصت على تجنبه في انتقائها لمواده، أجابت، “تولاّني القلق من حث الطلاب في جامعات أميركا الشمالية على التحدث عن أحداث الشرق الأوسط، وبخاصة “الربيع العربي”، ومن ثم استخدامهم للغة دراسات المناطق وعلم السياسة الجغرافية”. “وعليه حين نتحدث عن سوريا المعاصرة، ينتهي بنا الأمر إلى مناقشة برنامج إيران النووي وحزب الله، أو داعش والتدخل العسكري الأميركي مؤخراً. وهذا المنظور الإقليمي منطقي في خضم حوارات معينة”.
“كما أن الإعلان عن الهجمات الجوية الأميركية في مستهل هذا الفصل الدراسي عنى، أكثر من ذي قبل، أن هناك مسؤولية أخلاقية تقع علينا لتدبّر الطرق التي تُقدِّم بها وسائل الإعلام الأميركية السوريين والمعان الضمنية التي تطرحها المفاهيم العامة للعنف المبرر”.
ولأن الأدب والإنتاج الفني لا يمكن بطبيعة الحال استثناؤهما من هذا النزوع، وجدت مِكمانِس أنه من الضروري أن تؤجل هذا التناول الإقليمي، أو بالأحرى تدفع الطلاب إلى إدراك أن التعاطي الجيوسياسي ما هو إلا طريقة واحدة للنظر إلى سوريا محذرة إياهم من أنها قد تحجب مناظير مختلفة لا تقل عنها أهمية.
لم تجفل مكمانس في هذا المنهج الدراسي من الاقتراب من مسائل الهوية الشائكة والتمثيل السياسي للمواطنين السوريين
وسواء تناولتْ فن الترجمة أو المطبوعات المعارضة أو المدلولات الفنية، ألفت مِكمانِس هذا التجاهل المؤقت غاية في الصعوبة، ففي بحثها عن تراجم إنكليزية لعمل بقلم الروائي السوري سليم بركات، لم تقع إلا على مقتطــف من روايته “فقهـــاء الظلام” (1985)، ترجمتها مارلين بوث في كتاب “أدب من محور الشر”.
و”أدب من محور الشر” مختارات أدبية بأقلام كتّاب من دول كالعراق وكوريا الشمالية وكوبا. تسدد نظرة متعاطفة إلى حقائق الحياة اليومية التي يعيشها أفراد يخضعون لأنظمة متهَمَة من قِبل إدارة أميركية سابقة بالنذالة والدونية، وقد أفضت مِكمانِس إلى كوالي، “انزعجتُ لأن هذه الصورة تضع اللقاء الأول للطالب ببركات في إطار لغة طنانة استخدمتها إدارة جورج دبليو بوش”.
أنماط مقولبة
وفي سياق الحوار ذاته سُئلت مِكمانِس عن إستراتيجيتها للتعامل مع الأنماط المقولبة القابعة في أذهان الطلاب، فأقرت بأنه قد تعذر عليها أن تزحزح فكرة التقسيم الطائفي الخلافية لاعتقاد الطلاب أن سوريا “يَسْهُل تقسيمها تحليلياً إلى طوائف وأعراق، وعليه يسعهم -أو ينبغي عليهــم- تقسيمها سياسياً بالأسلوب ذاته”.
عبرت مِكمانِس عن أسفها لعدم وجود نظرية نقدية للنزعة الطائفية في سوريا مؤكدة أن النشطاء السياسيين والقائمين على الثقافة السورية المؤيدين لقلب نظام الأسد “يجاهدون هم أنفسهم لفهم معضلات الهوية الطائفية”.
وفي محاولاتها لتمويه الخطوط الداكنة الفاصلة بين الطوائف والأعراق في أذهان الطلاب الأميركيين عن سوريا، أدمجت مِكمانِس أفلاماً وثائقية قصيرة من إنتاج شركة أبو نضارة، وهي شركة أسسها سينمائيون لم يذع صيتهم قبل اندلاع الثورة السورية. لا تدعم الشركةَ أموالٌ مجهولة، ولا تستلهم أفكاراً جهادية.
|
تعلن “أبو نضارة” أن مهمّتها هي التعبير عن الشعب السوري بمختلف ألونه، من الثوري إلى الموالي، السنّي والشيعي، الطفل والمحارب، بل وتمنح الفرصة للقناص كي يقول كلمة! ومع ادعائها أنها لا تحصر المجتمع السوري في اللون الأبيض والأسود، وصف الناقد والمترجم روبين كريسول أفلام الشركة بأنها تجليات لبلوغ الضمير السياسي.
الوحدة والطائفية
التحدي الآخر كان دور مِكمانِس في تفسير مواقف وسائل الإعلام تجاه الثورة السورية، “اعتقد الطلاب أن معارضي نظام الأسد هم وحدهم الجديرون بانتباههم. لو تطلّعت إلى النصوص من عام 2011 مثل كتاب سمر يزبك “تقاطع نيران”، سوف تجد تأكيداً متكرراً على وحدة السوريين التي تتهددها ألاعيب النظام”. والبادي أن مِكمانِس ترى هذا التأكيد مجرد رغبة رومانسية، لا حقيقة واقعة.
ومع ذلك تظن أنه من الحيوي الوعي بهذه النصوص دون الانزلاق إلى أحد الروايتين المتطرفتين في رأيها: “الادعاء بأن الطوائف هويات أساسية تنبعث من جديد وتعوق السياسات “العصرية” في سوريا (أي قراءة استشراقية تدعمها بعض وسائل الإعلام الغربية) أو التشديد على وحدة قومية جوهرية (أي إعادة إنتاج الخطاب الثوري)”.
لم تجفل مِكمانِس في هذا المنهج الدراسي من الاقتراب من مسائل الهوية الشائكة والتمثيل السياسي للمواطنين السوريين والادعاءات السياسية المتطايرة في كل اتجاه.
صرحت في حديثها مع كوالي أنها أرّخت لوقائع تقاطعت فيها الطوائف والسياسات في عهد نظام الأسد، مستخدمة مواد تاريخية مثل دراسة المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو “فلاحو سوريا” وسيرة لحافظ الأسد كتبها الصحفي البريطاني باتريك سيل، علاوة على رواية خالد خليفة “في مديح الكراهية” التي ترفض بين صفحاتها أن تسمي أيّ طائفة.
ومع أن التركيز الجوهري للمنهج ينصبّ على الآداب والفنون، حاولت مِكمانِس بصعوبة شديدة تفنيد الأفكار المسبقة التي تحتل عقول التلاميذ الأميركيين عن سوريا وتركيبتها العقائدية، ومن ثمّة الطائفية، وارتباط تلك التركيبة بثورتها الشعبية من جانب، وعلى الجانب الآخر ما أفرزه العالم الإسلامي برمّته على إثر ذلك من تطرف تبلور جهادياً على الأرض السورية وجارتها العراقية، فانسحبت الأحاديث الدراسية ولا محالة إلى الفخ الجيوسياسي.