المزارعون في جنوب لبنان يكابدون مشقة حصاد الزيتون

عمّق استمرار القصف الإسرائيلي المستمر على جنوب لبنان حالة التشاؤم بين المزارعين الذين يكابدون مشقة حصاد الزيتون، وسط توقعات بخسائر كبيرة نتيجة موسم إنتاج سيء لأصحاب الحقول باعتبار هذا النشاط مصدر الرزق الوحيد لأغلب الأسر هناك.
الكفير (لبنان) - يكابد العديد من المزارعين في جنوب لبنان مشقة جني محصول الزيتون بسبب الحرب، والتي جعلت الكثيرين يفرون هربا من القصف الإسرائيلي على حقولهم، بحثا عن مكان آمن لهم ولأسرهم.
وتعتبر زراعة الزيتون مجالا مهما، حيث تنتشر 13.5 مليون شجرة تشكل قرابة 5.4 في المئة من مساحة البلاد البالغة 10.4 آلاف كيلومتر مربع، وتنتج سنويا بين مئة و200 ألف طن.
وفي ظلّ شجرة الزيتون وأزيز الطائرات الحربية، يجمع أسعد التقي حبوب الزيتون مع مجموعة من العمال في إحدى قرى الجنوب، متحدّين الخطر المحدق بهم بسبب التصعيد المتواصل بين حزب الله وإسرائيل.
وتظهر في الأفق سحابة دخان ناجمة عن قصف إحدى القرى الحدودية مع إسرائيل، لكن أسعد وزملاءه يواصلون القطاف بابتسامة في الحقل العائد إلى أحد سكّان قرية الكفير الواقعة في منطقة حاصبيا وتبعد حوالي تسعة كيلومترات عن الجولان السوري المحتل.
ويقول أسعد (51 عاما) لوكالة فرانس براس فيما وقف في ظلّ شجرة يجمع حبوبها “نعمل هنا في منطقة الكفير القريبة من القصف،” لكن “لست خائفا من القذيفة (…)، إن وجودنا هنا تحدّ للقصف.”
مزارعون في قرية كفر من بين قلة من المحظوظين الذين تمكنوا من جني المحصول في بساتين جنوب البلاد
ويؤكّد الرجل الذي لوّحت الشمس وجهه أنهم سيبقون مستمرين في ذلك؛ فهو يرى أن “الزيتون أفضل ثمرة وشجرة سلام.” وبعصا خشبية يهزّ أسعد إلى جانب العمّال والعاملات الشجرة لتتساقط منها الحبوب على كيس من الخيش، مختلطة بأوراقها.
ويتظلّل العمال بغصون الأشجار عند استراحة الغداء جالسين على الصخور الوعرة التي تتكوّن منها أرض هذه القرية المرتفعة نحو 900 متر عن سطح البحر وتقع على سفح جبل الشيخ عند مثلّث الحدود اللبنانية والسورية والجولان المحتلّ.
وتقول حسنا حمّاد (48 عاما) العاملة مع أسعد في قطاف الزيتون “لا نشعر بالخوف، اعتدنا على الأمر، وصامدون (…)، بل نخاف على إخوتنا المتضررين من الحرب،” مضيفة أن هذا العمل “يشكّل مصدر رزق لنا” رغم التحديات.
وهؤلاء بين قلة من المحظوظين في الجنوب تمكّنوا من قطف الزيتون في موسم هذا العام، فالقرية ذات الغالبية المسيحية والدرزية بمنأى حتى الآن عن نيران الحرب بشكل مباشر، رغم تكثيف إسرائيل قصفها مناطق واسعة في جنوب لبنان وشرقه منذ سبتمبر الماضي.
ومنعت المعارك والقصف الكثير من السكان من العودة إلى قرى أخرى في جنوب لبنان تعرّضت لدمار كبير، فالكثير من البلدات هجرها أهلها ولم يعد لأراضيها من يحصدها.
58
مليون دولار الخسائر المتوقعة للقطاع خلال الموسم الحالي، وفق البنك الدولي
ويقدّر البنك الدولي دمار “نسبة 12 في المئة من بساتين الزيتون” في المناطق المعرضة للقصف في جنوب البلاد وشرقها. ولذلك توقع في تقرير نشر الخميس الماضي أن “يؤدي تعطيل حصاد بسبب القصف والنزوح إلى خسائر تبلغ 58 مليون دولار.”
وفي الكفير تتوزّع أشجار الزيتون في كلّ مكان حتى الأفق حيث يظهر جبل الشيخ الذي لم يغطّ الثلج قممه بعد. وقرب كلّ حقل سيارة أو سيارتان تؤشران على وجود العمّال أو أصحاب أرض يقطفون الزيتون في هذا الموسم.
وفي نهاية يوم العمل الذي غالبا ما يتخلله خرق الطائرات الحربية الإسرائيلية جدار الصوت، يرفع العمّال أكياس الزيتون على ظهورهم، ويحمّلونها على شاحنات استعدادا لنقلها إلى مواقع تخزينها أو عصرها وتحويلها إلى زيت.
وبينما يحصد الكثيرون محاصيلهم بأيديهم، يخاف آخرون أن يأتوا إلى القرية ما أثّر بشكل غير مباشر على عمل سليم كساب (50 عاما)، صاحب معصرة زيتون تقليدية في الكفير.
ويقول الرجل فيما وقف داخل المعصرة التي ورثها عن والده إن “الكثير من الناس لم يأتوا بأنفسهم لحصد الزيتون” هذا العام “بل أحضروا عمالا ليقطفوا بدلا عنهم” من خارج القرية، “هؤلاء يعصرون الزيتون خارج القرية أيضا”، وهو ما أثّر سلبا على عمله.
أكثر من 1909 هكتارات من الأراضي الزراعية في جنوب لبنان تضررت أو لم يتمّ جني محاصيلها منذ بدء تبادل القصف بين حزب الله وإسرائيل
ويضيف كساب الذي جاء إلى القرية وحيدا هذا الموسم من دون زوجته وأولاده، خشية مخاطر الحرب، “هناك خوف من الحرب طبعا، ليس لدى الجميع الجرأة للقدوم إلى هنا.”
وداخل المبنى الحجري القديم في أحد الشوارع الضيقة في القرية، يدأب العمّال على نقل الزيتون من آلة إلى أخرى لهرسه وعصره وتحويله إلى زيت. ويأتي صاحب محصول مع مطرات زرقاء كبيرة لجمع الزيت والاطمئنان على سير العمل.
وقبل الحرب كان يصلّح كساب آلات العصر في منطقة النبطية أو صيدا في جنوب لبنان، لكن الوصول إلى تلك المناطق بات مستحيلا حاليا بسبب القصف، وينبغي البحث عن حلول في مناطق أخرى. ويقول “يحتاج إصلاح أي عطل ثلاثة إلى أربعة أيام بدل يوم واحد.”
وفي جنوب لبنان وشرقه تسببت الحرب في “حرق مساحات واسعة من الأراضي الزراعية” أو في “التخلي عنها”، إلى جانب “فقدان المحاصيل بسبب نزوح المزارعين من الجنوب” نتيجة القصف الاسرائيلي، وفق تقرير البنك الدولي.
وتسبّبت الحرب بلبنان في نزوح نحو 900 ألف شخص، وفق أرقام الأمم المتحدة. وبشكل عام، وخلال التصعيد المستمر منذ أكثر من عام، بلغت قيمة “الأضرار التي لحقت بقطاع الزراعة حتى تاريخ 27 سبتمبر 2024 حوالي 124 مليون دولار،” وفق البنك الدولي.
لكن في الكفير تشكّل حقول الزيتون مصدر رزق لغالبية سكانها الذين يصفونها بالأشجار “المباركة”.
وفي أحد أزقة القرية باب صغير تفوح منه رائحة الزيتون الطازج. وهنا تغسل إنعام أبورزق (77 عاما) وزوجها الثمار استعدادا لحفظها في قوارير تدوم طوال الشتاء حتى الموسم المقبل، أو تحويلها إلى زيت.
وتقطف إنعام الزيتون في قريتها كل عام منذ عقود، وتنظّف المحاصيل وتوضبها، ولم تشأ أن يكون هذا العام مختلفا. وتقول “نخاف طبعا، هناك صوت قصف، وصوت طائرات” لكننا “نحب شهر الزيتون كثيرا، نستفيد منه (…) فنحن مزارعون وعملنا بالأرض.”
وبحسب منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، فإن أكثر من 1909 هكتارات من الأراضي الزراعية في جنوب لبنان تضررت أو لم يتمّ جني محاصيلها منذ بدء تبادل القصف بين حزب الله وإسرائيل بدءا من أكتوبر 2023 حتى نهاية سبتمبر الماضي.