المرض واحد.. فهل النهايات واحدة

ديمومة الحال محال، أكثر من عامين كاملين ونحن ندفع الأيام بقوة لتمر وهي تتثاقل ولا تعطنا تلك الفرصة بسهولة، تحاربنا أكثر مما نحاربها، وبضراوة قاتلة تجثم فوق الصدور منذ أن تقيأت أختي الكبرى كلمات الأطباء الباهتة ووعودهم المتوالية بالشفاء من تلك الأورام الليفية التي سكنت ثديها.
أذاقتها وأذاقتنا معها مرارة المرض اللعين وشبح الإصابة به يتشكل رويدا رويدا ليتجسم أمامنا وحشا يأكل أحلامها في أن ترى طفلتها أما، أو تلبسها فستان الزفاف.
وها قد حدث ما تخوفنا منه وأبعدناه عن مخيلتنا كثيرا، سنحدد معا جلسات الكيميائي، والجرعة التي تحتاجين إليها.
نقطة ضخمة فاصلة بين جملة الطبيب الكبير وهو يلقي بكلماته في وجوهنا وبين أي تعقيب يمكن لعقولنا ترتيبه والتفوه به، عجز اللسان عن ترجمة إشارات المخ وتوارت الكلمات خلف الصمت المرعوب.
نطقت الكلمة باللغة الإنكليزية بصيغة التساؤل ليؤكدها الطبيب بصرامة وحسم، خيل إلي أنني أخفف من وطأتها على قلب شقيقتي، الكلمة باللغة العربية صادمة، جارحة، قاتلة لأنوثة أختي التي مازالت تحمل أيامها أحلاما كثيرة، وتكتظ خزانة ملابسها بأثواب بألوان زاهية ليس الأسود من بينها تحديدا، غير ثوب وحيد ينزوي بعيدا لمناسبات حزينة.
عدنا إلى منزل والدتي بعد سماع الخبر متماسكين شكليا فقط والحقيقة أننا متنا أكثر من آلاف المرات، أنا وشقيقتي المريضة والشقيقة الكبرى.
ألقت ببعض حبات من الدواء في فمها وعلى عجل دفعت قطرات ماء تخفي الدواء وتذوبه، نظرت إلى ابنتها في صمت وهي تبكي، تتحسس ثديها كما لو كانت تودعه أو تسأله، ماذا أصابك؟ كيف تغادر سريعا؟ وهل ستذهب وحدك أو تأخذ روحي معك.
فتحت خزائن ذكرياتها وظلت ليلة كاملة تسرد علينا مواقف عديدة مرت بنا في عمر فائت، وكيف استقبلت أمي خبر إنبات النهدين لابنتها الكبرى وأنها تخطو خطواتها الأولى نحو الشباب، فكيف ستستقبل أمي خبر مغادرته لموقعه؟ وكيف تنظر هي إلى أنوثتها في المرآة حتى وإن حقنوه سيليكون وحشوات صناعية تحافظ على مظهر خارجي بلا روح؟
كل ما تنشره أختي على الموقع الأزرق حزين، والمحزن أكثر منه ذلك التفاعل التشاؤمي والنظرة الكئيبة من صديقاتها، كمعلمة لمادة الرياضيات تفاعل معها الكثير من أولياء أمور الطلاب بما يليق بحزنها، أضافوا إليه من اللمسات التي تجعلها في مرتبة قدسية أعلى بكثير من تلك التي فرضتها هي على نفسها.
تباينت ردود الأفعال من شفقة، وتعاطف، وبعد، وسيطرت الهواجس على الجميع، ماذا بعد؟ العلاج الكيميائي ومضاعفاته الشكلية والجسدية والنفسية أم الاستئصال؟
وعلى الجانب الآخر أصيبت صديقتي الصحافية بسرطان الثدي، لم تزد على كلمات الطبيب في سردها لصديقاتها غير جملة واثقة “هذه إرادة الله وأنا أثق في تدبير الخالق لأحوالي”، طلبت العلاج وخاضت تجربة الكفاح ضد المرض بقلب محب للحياة.
رغم تخلي زوج صديقتي عنها في محنتها، ورغم طلاقها المفاجئ، ظلت متمسكة بالحياة، تغزل من الألم أملا، ومن الفقد حياة، صارت أيقونة لنساء كثيرات ذهبت جلسات العلاج الكيميائي بشعر رؤوسهن. كتبت صديقتي في أشد لحظات أزمتها قصصا للأطفال عن الحماسة للحياة وعن الطاقة الإيجابية والحب والتفاؤل.
أطلقت العديد من المبادرات التشجيعية لمريضات سرطان الثدي للتعامل الجيد مع المرض والسيطرة عليه والتغلب عليه وممارسة الحياة بشكل طبيعي، خاصة أن مرض سرطان الثدي من أكثر أنواع السرطانات انتشارا وشيوعا حول العالم، ويعد ثاني أكثر الأنواع فتكا.
تنشر صديقتي الطاقة الإيجابية في من حولها، وتبث الروح القتالية في معركة النساء ضد سرطان الثدي، هي تقول إن صديقاتها أعطينها طاقة هائلة للتعامل مع مرضها والمقاومة.
لكنني أقول: هي بالفعل تملك تلك الطاقة الإيجابية، ولديها قوة الحياة التي تبعث في الإنسان قدرة خارقة على المقاومة والتمسك بالحياة، تلك الطاقة التي تشع النور وتحمل وهج الحياة، ففي داخلنا مارد أقوى مما تحويه كتب الخيال العلمي من قصص بطولية خارقة.
ما بين شقيقتي وصديقتي خط فاصل من حب الحياة، والرجاء في مستقبل أكثر توهجا وألقا، تعددت الوجوه والمرض واحد، بينهما جسر من حرير ناعم، كلتاهما تراه ولكن واحدة تتمسك به وتنزلق عليه نحو الحياة، والأخرى تنزلق منه نحو الكآبة والحزن، لا أرى أن هناك مرضا قاتلا، ولكن هناك نفوسا تحارب من أجل الحياة، وأخرى تجري إلى الموت كقطيع يذهب للذبح طائعا.
نهاية مريضات الثدي ليست واحدة بالطبع، تتعدد وتختلف، فهذا المرض يحتاج إلى نوعية خاصة من المريضات، يحتاج إلى نفوس مقاتلة، محبة للحياة.
أرى أن الله تعالى خلقنا لنحيا لا لنموت، وجعل لكل منا مسافة بين الحياة والموت يصنعها الإنسان بنفسه، إما بالعمل وخلق قيمة مضافة للحياة، أن يحدد هدفه ويعمل عليه، وإما بالموت والانسحاب، وحين تغلق صفحات البعض لا نجد فيها ما يدعو إلى ذكرهم.