المرصد التونسي للاقتصاد يفشل في رصد أسباب أزمة الخبز

بينما تتعدد العوامل التي أدت إلى نقص مادة الدقيق (الفارينة) في الأسواق التونسية، يركز المرصد التونسي للاقتصاد على توجيه اللوم إلى سعر صرف الدينار والسياسات المالية التي تبنتها الحكومة، متجاهلا الحرب في أوكرانيا والجفاف.
تونس - حمّل المرصد التونسي للاقتصاد السياسات النقدية للحكومة التونسية، التي لجأت وفق ما ذكره في مذكرة أصدرها يوم الجمعة إلى تخفيض سعر صرف الدينار التونسي منذ عام 2016، المسؤولية عن ارتفاع كلفة شراء الحبوب.
وتقول المذكرة إنه في أغسطس 2015 ومايو 2017 وأغسطس 2019 كان سعر طن من القمح يعادل 180 دولارا أميركيا إلا أن سعر صرف الدينار انخفض في حين بقيت كلفة طن القمح ثابتة بالدولار مما أدى إلى ارتفاع السعر بالدينار.
ويقول المرصد من خلال ما جاء في المذكرة إن ارتفاع كلفة شراء الحبوب أدى إلى عدم قدرة الدولة على صرف مستحقات ديوان الحبوب، بعنوان دعم منظومة الحبوب في الآجال، وهو ما يجعله غير قادر على تأمين الدفع للمزودين.
وهو ما يضطر، وفق المرصد، ديوان الحبوب إلى اللجوء للاقتراض من البنوك الوطنية ومن المؤسسات المالية العالمية، حيث بلغت ديونه لدى البنك الوطني الفلاحي على سبيل الذكر 4.8 مليار دينار في العام الماضي، وهو ما يمثل حوالي 27 في المئة من إجمالي القروض الممنوحة من قبل البنك للمتعاملين.
ويلقي المرصد باللوم في هذا كله على سياسة تخفيض سعر الدينار، المتأتية من اعتماد سياسة نقدية تقوم على استقلالية البنك المركزي، وهو ما أفضى، وفق المرصد، إلى تهديد مباشر لقوت المواطنين وحقهم في الغذاء بشكل منتظم ودائم، باعتبار انعكاس ذلك على توفر القمح في الأسواق وسلاسل قيمة إنتاج مشتقات الحبوب التي تشكل الغذاء اليومي.
◙ 3 ملايين طن من الحبوب تستهلكها تونس سنويا وهو ما يعادل 136 كيلوغراما للفرد الواحد
ويستهلك التونسيون ما بين 2.5 و3 ملايين طن من الحبوب سنويا وهو ما يعادل 136 كيلوغراما من الدقيق والحبوب في العام الواحد لكل مستهلك. وتشكو المخابز التونسية في الآونة الأخيرة من شح في الموارد الأساسية لتصنيع الخبز وأبرزها الدقيق.
وتتعدد عوامل نقص الموارد، ومن أبرزها تداعيات الحرب على أوكرانيا، إحدى أكبر مصدري القمح في العالم، إذ تستورد تونس نحو 60 في المئة من القمح من روسيا وأوكرانيا. وهناك أيضا عوامل المناخ، مثل ارتفاع درجات الحرارة الشديد، والجفاف الذي يؤدي إلى تراجع في المحاصيل الزراعية.
ويثير تجاهل المذكرة الصادرة عن المرصد لهذه العوامل التي يدركها المواطن التونسي العادي، ما بالك بالخبراء، وتركيزه على سعر صرف الدينار تساؤلات حول دوافع إصدار هذه المذكرة.
وللإشارة فإن المرصد التونسي للاقتصاد، إلى جانب منظمات أخرى، كان قد أصدر عددا من التقارير أبرزت أن إملاءات صندوق النقد الدولي التي أدت إلى اعتماد استقلالية البنك المركزي التونسي وتبني سعر صرف مرن، قد تسببت في تراجع القطاع الخارجي وإنهاك المالية العمومية.
وبالمقابل، وعلى نقيض القراءة التي تقدمها تلك المنظمات التي ربطت بين أزمة القمح وسعر صرف الدينار التونسي، يرى محللون اقتصاديون، داخل تونس وخارجها، أن الدينار التونسي صمد في وجه العواصف.
وفي تقرير نشرته صحيفة “الإندبندنت” (النسخة العربية) جاء في مقال تحدث عن صمود الدينار التونسي أن “العملة الوطنية التونسية عرفت استقراراً نسبياً في السنوات الثلاث الأخيرة، ولم تسجل انهياراً مماثلاً لما شهدته عملات عربية رزحت تحت أزمات اقتصادية بفعل عوامل خارجية مماثلة، وفي ظل استقرار سياسي مقارنة مع تواتر التغييرات على رأس السلطة في تونس، وغياب إستراتيجية خاصة للإصلاح الاقتصادي”.
ويمضي المقال ليتحدث عن صمود الدينار التونسي أمام عواصف عاتية، أهمها ارتفاع نسبة خدمة الدين، ومستوى المديونية المتفاقم البالغ 86 في المئة من الناتج القومي الخام، وتراجع الاستثمار وعدم استقرار نسق التصدير وغلق الآلاف من المؤسسات التونسية أبوابها.
ويرى محللون أن السياحة وتحويلات المغتربين وعدم وجود سوق موازية للصرف وراء استقرار الدينار في السنوات الأخيرة. وكان الدينار التونسي قد شهد تراجعاً خلال العقد الأخير، وبالتحديد بعد أحداث ما سمي بـ”الربيع العربي” منذ عام 2011، مما أدى إلى أزمة اقتصادية انعكست على العملة الوطنية التي شهدت تراجعاً حادا في سعر الصرف مقابل الدولار واليورو على مدار 10 أعوام.
وقد يكون مفيدا أن نرصد تحركات الدينار التونسي مقابل الدولار ما بين عامي 2012 و2020، حيث بدأ الدينار رحلته في الانخفاض من 1.484 مقابل الدولار ليصل إلى 1.544 عام 2013، ويواصل الانحدار ليصل إلى 1.648 عام 2014. ثم تجاوز الدولار سقف الدينارين عام 2016، وتعمقت الفجوة بين العملة عام 2018، لتستفحل في العام التالي له، إذ تجاوز سعر صرف الدولار 3.06 دينار في فبراير 2019.
◙ السياحة وتحويلات المغتربين وعدم وجود سوق موازية للصرف وراء استقرار الدينار في السنوات الأخيرة
وفي مسار عكسي، انخفض سعر صرف الدولار بداية من أواخر 2019 ليبلغ 2.9 دينار في 2020 ليعاود الارتفاع عام 2022 إلى مستوى 3.3 دينار، وهو أقصى مستوى له في هذا العام ليعود للانخفاض إلى مستوى 3.0888 دينار حاليا. وكان لا بد من ذكر هذه التفاصيل (التي يمكن تجاوزها)، للتأكيد على أن الربط بين أزمة الخبز والدقيق التي تشهدها تونس وسعر صرف الدينار مغلوط تماما. فالأعوام الثلاثة الأخيرة لم تشهد سوى حركات خفيفة في سعر الصرف ارتفاعا وانخفاضا.
حتى لو أخذنا بما جاء في المذكرة الصادرة عن المرصد التونسي للاقتصاد، وقبلنا بأن سعر الدينار يضغط على ميزانية الحبوب، إلا أن التبعات الناجمة عن وضع سعر خاص للاستيراد (أو ما يسمى بسياسات الدولار الجمركي)، أو بتعويم العملة، هي قضايا قد تتسبب بنتائج عكسية تماما لما هو مأمول منها.
ويمكن رد الأسباب التي دعمت العملة الوطنية التونسية خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى سياسة “التقشف”، وبلغة الاقتصاد، دعم مخزون العملات الاحتياطي عن طريق التحكم في حجم الواردات، مما يخفض من الطلب على العملات، وهو ما يؤدي إلى انهيار العملة المحلية، الأمر الذي تم تفاديه في تونس.
ومن بين العوامل التي ساهمت في الحفاظ على التوازنات المالية دعم المخزون الاحتياطي للعملات من تحويلات المغتربين التونسيين التي بلغت 8.4 مليار دينار (2.7 مليار دولار) عام 2022، بارتفاع قدره 28 في المئة، مقارنة مع عام 2020، وأضحت المصدر الرئيسي للعملات، يليها القطاع السياحي الذي وفر عائدات قدرها 4.1 مليار دينار (1.31 مليار دولار) عام 2022، وأسهم القطاعان في الاستقرار الملحوظ للعملة الوطنية، التي لم تشهد تآكلاً رغم الانخفاض الطفيف.
أيضا، الاقتصاد التونسي لا يرتبط بعملة أجنبية معينة، مما أسهم في التخفيف من انزلاق الدينار والحد من الخطورة، فقد حسنت تركيبة الاقتصاد المتنوعة من أدائه خلال الفترات الصعبة التي مر بها، مما فتح المجال لقطاعات مختلفة لكي تلعب دورها في تحقيق التوازنات.
كما قادت تونس سياسة نقدية متشددة على أثر ارتفاع مستويات التضخم، واعتمدت الترفيع في الفائدة للضغط على الاستهلاك واسترجاع التوازنات المالية. وكانت تونس قد اعتمدت في فترة سابقة تحديد سعر الصرف عبر آليات العرض والطلب، لكنها تخلت عن ذلك.