المرشح الرئاسي المحبط
بعد ثورة 25 يناير 2011 فاجأني ابني الأكبر يوسف “اثنا عشر عاماً وقتها” بطلب التصويت له في الانتخابات الرئاسية القادمة (أول انتخابات رئاسية حقيقة بعيدا عن الكوميديات الرخيصة الساخرة) فقد قرر ترشيح نفسه، مطالبا بإجراء حوار صحفي معه باعتباره مرشحا محتملا أسوة ببعض مرشحي الرئاسة الذين أجريت معهم حوارات وقتها. ضحكت غير عابئة بالأمر. ولكنه فاجأني بالإلحاح خاصة بعدما أنشأ حسابا خاصا لحملته الانتخابية وبدأ بعرض برنامجه الانتخابي واستجاب له الكثير، وللحق كانت أفكاره مبتكرة وماسة لجروح مصرية استعصت على الحل، حاورته وحاوره بعدها برنامج تليفزيوني شهير، وجريدة الأهرام ويكلي، وجريدة الدستور تلتها عدة جرائد.
ابني الذي لم يخجل من أن يطالب الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء وقتها على الهواء مباشرة بتقديم استقالته لفشله في إدارة البلاد، وانتقد مرشحي الرئاسة البارزين وقتها، عمرو موسى وزير خارجية مصر الأسبق، والدكتور محمد البرادعي مدير وكالة الطاقة الذرية، دون تجريح وبمنطقية كان يحسد عليها طفل. أصبح الآن يردد مقولة الراحل سعد زغلول “مفيش فايدة” تعليقا على كافة الأحداث بداية من السياسية إلى الاقتصاد المتردي وأزمة جنون الأسعار، وهبوط الجنيه أمام المارد الأخضر “الدولار”.
اقترح الطفل ـ الموصوف على شبكات التواصل الاجتماعي وويكيبيديا بأصغر مرشحي الرئاسة ـ إلغاء النظام المصري المهين “العلاج على نفقة الدولة” والاكتفاء بتقديم البطاقة الشخصية لعلاج المواطن بصورة آدمية تحفظ له كرامته بدلا من مطالبته بتقديم شهادة فقر حتى يثبت أنه حفيد الفراعنة والوريث الشرعي لحضارة خمسة آلاف عام تتآكل تحت وطأة الجهل والفقر، اقترح إنشاء عاصمة جديدة لمصر مع ترك قاهرة المعز تحكي تاريخ دولة ضاربة بجذورها في عمق الزمن، دولة عمرها 5100 عام ومازالت “ترضع” القوت من دول تصغرها عمرا وحضارة، كما طالب بحماية “قفا” المواطن في أقسام الشرطة.
يوسف الذي أبكى المذيعة اللامعة سوزان حرفي من شدة حبه لمصر، فاجأني بأنه محبط ومصاب باكتئاب حاد لأنه لم يجد الدولة التي كان يحلم بها، لم يجد من يعترف بعلم ولا إبداع، بل وجد فكره وأراءه منثورين على موائد مسؤولين فقدوا القدرة على التواصل مع أجيال أخرجت البلاد من “ثلاجة” حكم أنهكته الشيخوخة، وأصابت مفاصله بالتيبس بعد أن وهن عظم البلاد واشتعل الرأس شيبا.
ابني ليس استثناء، بل هو القاعدة في تعامل المسؤولين مع العقول الشابة وتجاهل الفكر وطمس معالم الإبداع، ابني لا يمثل سوى “شقفة” إحباط سقطت من انفجار هائل أصاب الكثيرين ولكنها وقعت في “صحن داري” فأدركتها باللمس والتعامل المباشر، ولكن شظايا أكثر خطرا سقطت في منازل أخرى ومست قلوبا قد تكون أكثر وعيا أو أقل.
أصبح الإحباط وجبة يومية تقدمها لنا الحكومات المتعاقبة، ويا للحماقة، في مطالبتنا باستساغتها، ولم لا وهي تتفنن في إعداد الطبق بكافة أشكاله ومذاقاته، بداية من المر إلى الأكثر مرارة ولا نهاية لوجبة الإحباط على مائدة الصباح.
كان لدينا منذ فترة شابا مصريا اسمه عمر عثمان وأطلق عليه الإعلام لقب عبقري الرياضيات، وللأسف تعرض لضغوط نفسية وعصبية وتمزق مجتمعي وتشظ نفسي لا حدود له، فهذا العبقري المحتفى به حين تقدم للالتحاق بالجامعة ووصل بطلبه إلى رئاسة الوزراء قوبل للأسف بالرفض، لأننا ببساطة نحترم القانون ولا يمكن أن يرتقي أحد مرحلة دراسية أعلى لسبب "تافه" مثل العبقرية.
العبقرية لدى مسؤولي مصر ليست شفيعة لأحد، قد تشفع في دول أكثر احتراما للعلم والعلماء والقلة “الاستثنائيون” الذين تسعى إلى جذبهم جميع الدول المتقدمة عدا مصر. أخشى أن تفرغ البلاد من العقول والشعب أيضا وتضطر الحكومة لاستيراد شعب تحكمه!