المرتزقة الأجانب الشرعيون وغير الشرعيين في ليبيا

أثارت تصريحات رئيس الحكومة الليبية عبدالحميد الدبيبة بخصوص ملف المرتزقة في البلاد عقب لقائه بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وتصنيفهم إلى مرتزقة أجانب بعناصر شرعية وأخرى غير شرعية، تساؤلات عن توجهات حكومته التي أظهرت انسجامها مع الموقف التركي، فيما يتوجس الشارع الليبي من أن يعيد الدبيبة سلوك سلفه فايز السراج ويختار إرضاء حليفته أنقرة على حساب عملية التوافق الوطني، ما من شأنه أن يجعل البلاد تدور في حلقة مفرغة.
نحت رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة عبارة مثيرة في القاموس السياسي الليبي عندما شدد في بيان رسمي عقب اجتماعه مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الخميس على “الأهمية الملحة لإخراج جميع المرتزقة الأجانب غير الشرعيين والمجموعات المسلحة من ليبيا لتحقيق الأمن في إطار خطة شاملة”.
ينطوي استخدم الدبيبة لـ”غير الشرعيين” على أهداف سياسية تتعلق بالتفرقة بين هؤلاء وبين أقرانهم “الشرعيين”، في محاولة للانسجام مع الموقف التركي الذي كان مُصرا في مؤتمر برلين الثاني الأربعاء الماضي، على اعتبار جميع القوات التي أرسلتها أنقرة إلى ليبيا (نظامية أو مرتزقة) قوات صديقة للهروب من توافق المجتمع الدولي على خروج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة.
لم يفرق البيان الختامي بين أي جهة أجنبية، ولم يتحدث عن مرتزقة شرعيين قادمين عبر تركيا وغير شرعيين قادمين عبر روسيا أو غيرها، ولم يشر إلى كتائب مسلحة تابعة للزنتان أو مصراتة، ولم يتحدث عن جماعات متطرفة جلبتها جماعة الإخوان من سوريا أو غيرها، فالكل في النهاية همّ يكبّل الدولة الليبية ويمنعها من حل أزمتها.
تحدث الدبيبة في مواقف أخرى عن خروج المرتزقة دون أن يشير من قريب أو بعيد إلى هذه التفرقة المصطنعة، وربما تكون المرة الأولى التي صك فيها هذه الجملة اللافتة للانتباه، ما جعل إشارته إلى “غير الشرعيين” تنطوي على معان سياسية كبيرة، لأن المرحلة المقبلة ربما تكون مرحلة تصفية جيوب جميع المرتزقة بلا تصنيف إذا كان المجتمع الدولي جادا في تسوية الأزمة الليبية ويتخذ من الإجراءات ما يلزم للتخلص من الأسباب الحقيقية التي تعرقل الحل السياسي.
مضى أكثر من ثلاثة أشهر على تولي الدبيبة رئاسة الحكومة دون أن يعلن عن خطة أو حتى رؤية للتعامل مع الكتائب المسلحة المنتشرة في ربوع طرابلس التي تبدو تصرفاتها الآن أنها واثقة من إيجاد حل لا يغضبها، ويُفهم من تصوراته أنه على استعداد للتعايش معها مثل سلفه فايز السراج.
يكمن الفرق بين الرجلين في أن السراج كانت الأجواء الإقليمية والدولية مواتية لحضّه على غضّ الطرف عن الدور الذي تلعبه الميليشيات في صناعة القرار الليبي، بينما اليوم بات ملف المرتزقة بندا رئيسيا على طاولة الكثير من الجهات المؤثرة، بما يضاعف من الصعوبات أمام محاولات الالتفاف التي تقوم بها تركيا.
لم تكن فكرة التفرقة بين المرتزقة صائبة في هذا التوقيت، حيث أزالت الالتباس لدى البعض بشأن الميول السياسية للدبيبة، فالرجل جاء على رأس حكومة للوحدة الوطنية والمفترض أنها بلا أجندات خارجية أو خاصة، غير أن الأداء العام بدأ ينحاز ناحية تركيا بكل ما يحمله دورها من تفاعلات سلبية في الداخل ومع بعض دول الجوار، كما أن طموحاته الشخصية للاستمرار في السلطة أخذت تظهر تدريجيا.
إذا كان الدبيبة أراد تأكيد إخلاصه لأنقرة فقد أثار شكوك بعض الدول الرافضة للدور التركي في ليبيا، وزاد من عدم ثقة شريحة كبيرة من المواطنين راهنوا عليه في هندسة التوافق الوطني
إذا كان رئيس الحكومة أراد تأكيد إخلاصه لأنقرة فقد أثار شكوك بعض الدول الرافضة للدور التركي في ليبيا، وزاد من عدم ثقة شريحة كبيرة من المواطنين راهنوا عليه في توفير الأمن والاستقرار وهندسة التوافق الوطني، لكن الأداء العام خلال الأسابيع الماضية يقلل من هذا الهدف ويضع علامات استفهام حول توجهاته.
يحمل الحديث عن مرتزقة شرعيين وغير شرعيين أربعة محددات أساسية تتعلق بالمسارات التي تمضي فيها الأزمة الليبية، قد تتقدم أو تتأخر، لكنها في المحصلة تمثل رافدا قويا لما تفوّه به الرجل عن قصد في بيان رسمي، ربما لجس النبض أو لترسيم الخطوط العريضة التي ينوي العمل من أجلها لتجاوز ملف المرتزقة.
- الأول: التمسك بعدم خروج القوات التركية والعمل بالاتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقعة معها في عهد حكومة السراج، وضرب عرض الحائط بالقوام الدستوري، فكل الخطوات التي اتخذت بين طرابلس وأنقرة، عسكريا واقتصاديا وسياسيا، لم تحظ بموافقة البرلمان الليبي، كما أن اتفاق الصخيرات الذي جاءت بموجبه الطبقة الحاكمة في عهد السراج لا يخوّلها حق توقيع هذا النوع من الاتفاقيات المصيرية، ما يوحي بأن الدبيبة عازم على تكرار سلوك السراج، والبقاء في السلطة بحكم الأمر الواقع.
- الثاني: المرتزقة غير الشرعيين كلمة مطاطة تضم الذين جلبتهم تركيا إلى ليبيا من سوريا أو غيرها، وعدد كبير من المتطرفين من الذين فتحت لهم جماعة الإخوان الأبواب المغلقة وجرى تجنيس بعضهم ومنحهم هوية ليبية في فترة سابقة، ولا يستطيع أحد حصر هؤلاء وهؤلاء، لكن دورهم يمكن أن يكون مؤثرا في النواحي الأمنية وفي عملية الانتخابات لصالح الفريق الذي يحتضنهم ويوفر لهم الملاذ الآمن.
- الثالث: إجهاض محاولة إخراج المرتزقة ودخولها في دروب وعرة، فالتفرقة بين الشرعي وغيره تحتاج إلى وقت طويل للفرز، ناهيك عن طبيعة الدور الذي يقوم به المرتزق الشرعي في ليبيا ولصالح من وفي أي اتجاه، الأمر الذي يعطل فكرة توحيد المؤسسة الأمنية، ويبقي على المسافات متباعدة بين مكونات المؤسسة العسكرية النظامية، ويشرعن وجود بعض الكتائب المسلحة التي لم يقترب منها الدبيبة بسوء.
- الرابع: حصر مصطلح المرتزقة (غير الشرعيين) في قوات “فاغنر” الروسية التي أشارت تقارير غربية عديدة إلى أنها تقف بجوار قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، بزعم أن هذه القوات دخلت ليبيا دون الحصول على موافقة من الحكومة الليبية.

لذلك من الضروري توجيه الأنظار إليها والتركيز على عملية خروجها في أسرع وقت ممكن، وممارسة ضغوط قاسية على الجهة التي جلبتها ورعتها واحتضنتها، ما يخل بالتوازن العسكري الراهن، بل يعيد الحرارة إلى فكرة التقسيم بين شرق وغرب، بما يعني أن مرتزقة الشرق غير شرعيين، بينما نظراؤهم في الغرب هم الشرعيون.
تدخل المحددات السابقة الأزمة الليبية في دوامة جديدة، وتفتح الطريق للمزيد من اللغط بين القوى المختلفة، وتحدث شدا وجذبا بين المرتزقة الشرعيين وغيرهم، وتضع المطبات في طريق الخطة الطموحة التي حواها مؤتمر برلين الثاني لعودة الاستقرار.
وتمنع هذه التصورات الجهود الرامية للوصول إلى محطة الانتخابات المهمة قبل نهاية العام الجاري، أو إمكانية الوصول إليها في أجواء سياسية وأمنية مشحونة لا تسمح بالحصول على نتائج تعكس الواقع الحقيقي في ليبيا، وبالتالي استمرار الدوران في حلقة مفرغة، ويبقى الحال على ما هو عليه لأجل غير مسمى.
لقد أخفق رئيس حكومة الوحدة الوطنية في قراءة المشهدين الإقليمي والدولي بدقة، فمن حيث أراد إثبات متانة علاقته مع أنقرة قد يتسبب في اهتزازها مع العواصم الرافضة للأداء التركي الذي فقد جزءا كبيرا من بريقه العسكري والسياسي لدى من منحوه الضوء الأخضر للزحف نحو ليبيا، ولذلك من المتوقع أن تتغير المعادلة التي وضع بموجبها الدبيبة تصوره الخاص لبقاء القوات التركية الصديقة.