المرأة والرجل على حد سواء أمامهما عدو مشترك

يجب خلق "خطاب إنساني" يستلهم معناه من شراكة حقيقية بين الجنسين ويتجاوز تسفيه المرأة وتبخيس جهودها.
الأحد 2023/12/31
إصلاح واقع النساء يبدأ من التعليم

أحدثتْ “صدمة الحداثة” رجات في العقل العربي فباشر مشروع التنوير مساره منذ منتصف القرن التاسع عشر لمكاشفة الذات وطرح سؤال “التقدم” وكيفية الانخراط في الحضارة الحديثة، وتمزق الإنسان العربي مذاك بين أطروحتين: أطروحة التراث وأطروحة المعاصرة، واشتغل رواد النهضة الأوائل على تلك الأسئلة رغم اختلاف عقائدهم. فقد راهنوا على خطاب عربي جديد يسمو بالعقل وينتقد الفقه القديم ويُعيد طرح المسألة الدينية بشكل نقدي ويعد بتحقيق العدالة وتطوير التعليم أسوة بالغرب.

لكن النخب العربية انخرطت في إشكاليات جديدة منذ خمسينات القرن الماضي بعد وقوع الكثير من الدول العربية تحت نير الاستعمار الأجنبي ما جعلها تركز في هذه المرحلة على الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، فاستأنفتْ أسئلة الحداثة مسارها بالانتقال من إشكالية الحداثة إلى إشكالية الثورة والاستقلال.

بعد هزيمة 1967 تأزم الوعي العربي وأجهض مشروع التنوير لعدم تمكنه من تصفية حساباته مع ماضيه وبناء خطاب عقلاني ينتصر لقيم التنوير، كما أجْهض الاستبداد الديني والسياسي مشروع الاستنهاض، ولا شك أن التيارات السلفية قد استغلتْ فشل الدولة وتنامي الاستبداد السياسي فبادرت إلى تقديم خطاب يُحاصر العقل باسم اليقين والمقدس، إلى أن وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن من استفحال ظاهرة الأصولية التي بطشتْ بالعقل والفكر الحر، وفوق ذلك أشهرتْ سيف التكفير ضد كل من يخالفها الرأي.

◙ توصيف الحركات النسوية العربية بأنها قائمة على اتقاء الرجل أو كونها خطاب ذم له وغيرها من التوصيفات، إنما يسقط في فخ القراءة “الذكورية” أو “الأبوية” للتاريخ

ولقد جاءتها الفرصة لكي تُمعن في تسفيه المرأة وتبخيس جهودها واعتبارها جنسا من الدرجة الثانية. فالأصولية لا ترتاح لقيم التنوير التي تدعو إلى الكف عن ترويع المرأة واعتبارها شريكا مساويا للرجل في بناء المجتمع والحضارة.

إن الاتجاه نحو التركيز على “خطاب إنساني” يستلهم معناه من شراكة حقيقية بين الجنسين لهو اليوم -في نظري- أكثر إلحاحا وأهم من أي خطاب ثانٍ، وإذا استطاعت الثقافة العربية اليوم أن تنجز هذا الخطاب فستكون بذلك قد تجاوزت مشكلة الهيمنة والاستبداد بصرف النظر عما إذا كان المعني بتلك الممارسات رجلا أو امرأة، ففي المجتمعات الديمقراطية تتحقق العدالة والمساواة بتطبيق القانون الذي يسري على الرجل كما يسري على المرأة، وإنه لحري بنا اليوم بلورة خطاب “حول الإنسان” وليس “حول الأنوثة” يناهض الفكر النكوصي المستشري في جسد الثقافة العربية.

فليست المرأة هي وحدها المضطهدة في مجتمعاتنا بل حتى الرجل هو الآخر يعاني من الارتهان لأساليب أخرى من الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية، والأجدى في هذه الحالة ليس البحث عن “حقوق النساء” فحسب بل عن “حقوق الإنسان” بشكل عام، فإذا تحققتْ الثانية في الواقع سينتفي البحث عن الأولى، وإن ذلك لا يتأتى إلا إذا تبوأت قيم التنوير مكانتها في حياتنا ومجتمعاتنا. ولذلك ينبغي أن تتكاثف جهود النساء والرجال على حد السواء لمكافحة عدوهما المشترك: الجهل والأمية والفساد ومجمل المشكلات التي تؤرقهما والتي أفرزتها المرحلة العربية الراهنة.

يبدو لي أن الطريق الصحيح للخلاص من شرور عدم المساواة بين الناس ودونية النساء في المجتمعات العربية على مستوى الخطاب الفقهي واليومي وفي المخيال الشعبي، يكون أولا بإصلاحات فورية وعميقة للمنظومات التربوية في الوطن العربي كإجراء لا بديل عنه بُغية تحصيل خطاب ثقافي يكون مستنيرا وعقلانيا وإنسانيا.

ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية

 فإعادة النظر في مناهج التعليم والعمل على إصلاحها والاهتمام ببرامجها، سيساهمُ لا محالة في بناء الإنسان السوي والمواطن الصالح المتسامح مع غيره لأن إصلاح التعليم هو إصلاح العقول. إن الرهان الحقيقي من أجل إنتاج خطاب بديل عن تلك الخطابات العُنصرية هو إجراء جراحة عاجلة لإصلاح التعليم ستنعكس نتائجها بلا شك على المنظومات السياسية والاجتماعية. فعلى التعليم أن يستعيد دوره المنوط به في توطين قيم العقل وحرية التفكير والفهم، وأن ينتبه إلى مخاطر الوهم التي تتسلل إلى عقول الناشئة بفعل الاستقطابات الأيديولوجية التي تعمل على توطين نفسها عندما يخلو لها المجال، وأهمها على سبيل الحصر الحجر على المرأة ونزع القيمة والفاعلية عنها وحصر دورها في الإنجاب والشؤون المنزلية.

أحب أن ألفت الانتباه هنا إلى أنه شتان بين النص الديني والخطاب الديني، فالتاريخ يُعلمنا أنه جرى تحريف بعض مضامين النصوص الدينية والعبث بمعانيها وتطويعها لصالح الخليفة أو الحاكم وخاصة تلك المتعلقة بالنساء وهذا بغرض إقصائهن، ولذلك يجب القول إن بعض التفاسير الدينية هي رجعية ومسيسة. فهناك فرق بين شرح آية من القرآن وبين الرأي الشخصي للمُفسر الذي يُفضي إلى أحكام فقهية تتحالف مع السلطة الذكورية.

 وهذا الكلام ينسحب أيضا على الأحاديث النبوية التي جاء بعضها مغلوط القراءة وعلى هوى المشرع كحديث “لم يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” الذي يستدعي قراءة متأنية ومراجعة عميقة للسياق التاريخي الذي ورد فيه من أجل فهمه على أكمل وجه، فقد نتجت عنه مصائر كارثية بعد أن توسلت به المنظومات الدينية الرجعية والظلامية وكذلك المنظومات السياسية الفاسدة لبسط هيمنتها وإحكام قبضتها على النساء. وإذْ يجري التشديد هنا على ضرورة إعادة قراءة السياق التاريخي لتراثنا الديني فمن أجل غربلة ومراجعة العديد من المفاهيم والأحكام الفقهية التي تحتاج اليوم إلى تفاسير جديدة تجنبا للمغالطات والأكاذيب.

إن توصيف الحركات النسوية العربية بأنها قائمة على اتقاء الرجل أو كونها خطاب ذم له وغيرها من التوصيفات، إنما يسقط في فخ القراءة “الذكورية” أو “الأبوية” للتاريخ لأنه لا يمكن وضع التجارب العربية المعاصرة كلها في سلة واحدة. لكن الأكيد أن الوعي العربي ظل شقيا بسبب قناعاته المغلوطة عن المرأة وعدم تفعيله للقوانين علاوة على إكراهات الإسلام السياسي رغم خروجها للتعلم والعمل! وفي الختام يجب التأكيد على أن النهوض بالمرأة العربية هو قضية مجتمع بكامله وليست قضية النساء وحسب، فأزماتها موصولة بأزمات الرجل العربي وبهموم الإنسان العربي عموما.

9