المرء حديث بعده

من أبلغ وأحكم ما قال أمير الشعراء أحمد شوقي "دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ/ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَوان/ فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها/ فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثان."
ولعل فقيدنا الكبير الدكتور هيثم الزبيدي كان ممن تمثّلوا تلك الوصية وطبقوها على أرض الواقع وعاشوا بها أعمارهم، فجعلوا من الحياة ساحة سباق نحو المحامد والمكارم والعطاء، وجعلوا من الأيام مدارات بذل وسخاء من دون حساب، وقد جمعوا بين الكد والجد والدأب والالتزام وصرامة الموقف والقرار من جهة، وبين الكرم والجود وإغاثة المحتاج ونصرة المظلوم من جهة أخرى. حتى أننا كنا نراه فارسا عربيا شهما اجتمع مع شريكه في الفضائل وزميله في السجايا والمزايا وقرينه في حب الخير وطيبة القلب الأستاذ محمد الهوني في مشيخة قبيلة "العرب" التي استطاعا أن يجعلا منها مؤسسة عالية الصوت والصيت بما تحمله من ثوابت وما تعلنه من مواقف وما تحتضنه من قضايا إنسانية ورؤى تنويرية وأفكار ومبادئ حضارية وثقافية.
ويكفي المرء أن يطلع على ما كتب في نعي ورثاء وتأبين فقيدنا الكبير، من قبل كل من عرفوه عن قرب، ومن زاملوه سابقا ومن عملوا تحت إمرته، ومن فارقوه مهنيا دون أن تتأثر بهم علاقته الإنسانية، ومن استمرت به علاقتهم الإنسانية والمهنية إلى الأيام والساعات الأخيرة من حياته التي اختتمها متجها إلى الرفيق الأعلى وهو يخطط لاستمرار المؤسسة ويوصي بدوام السير على خطاه من أجل مصلحة الباقين من ورائه على قيد حياة لن تخلو أبدا من ذكره.
ولعل من أكثر ما يثير الاهتمام ويلفت الانتباه، هو إجماع المتحدثين على صفات الكرم والنجدة والإسناد والدعم وتقديم المدد والإغاثة التي تحلى بها الفقيد، وكيف كان كثيرا ما يتقدم بنفسه ليقترح المساعدة على من يستحقها، وكيف أنه لم يحدث أن تجاهل في يوم مّا دعوة محتاج، ولم يترك مناسبة لإسعاد شخص قريب أو بعيد إلا وسارع لاستثمارها بالفعل في تحقيق تلك السعادة المرجوة، وكأنه من قال فيه أبوتمام "تعوّد بسط الكف حتى لو أنه/ ثناها لقبض لم تطعه أنامله/ تراه إذا ما جئته متهللاً/ كأنك تعطيه الذي أنت سائله“.
وإذا كان من الممكن أن نحكم على الموت بمفهوم الربح والخسارة، فإن الدكتور هيثم استقبل الموت منتصرا وقد ربح جولتها وفاز بما بعد الرحيل إلى ذمة الله. فالحياة مهما طالت قصيرة، والموت بوابة البقاء، وكما قال ابن دريد الأزدي "إنَّما المرءُ حديثٌ بعده / فكن حديثًا حسنًا لمن وعى" انطلاقا من أن "الناس ألفٌ منهمُ كواحد/ وواحدٌ كالألف أن أمرق عنا/ وللفتى من ماله ما قدمت/ يداه قبل موته لا ما اقتنى."
رحم الله الدكتور هيثم فقد فعلها وانتصر حيا وميتا. "فالذكر للإنسان عمر ثان."