المخاض البريطاني الحتمي للتراجع عن البريكست

البريكست يشبه التصويت لنقل الجزر البريطانية لموقع آخر من المحيط الأطلسي أي أنه غير قابل للتنفيذ مهما كان حجم تأييده.
الجمعة 2018/07/20
رحلة العودة لأحضان أوروبا

دخل مخاض الطلاق البريطاني عن الاتحاد الأوروبي مرحلة حرجة بعد أيام قليلة من أول اقتراب جدي من حواجز البريكست الصعبة، والذي فجر سلسلة طويلة من الاستقالات والتحولات الكبيرة، التي تكاد تعلن استحالة تنفيذ البريكست.

فرغم أن الخطة التي أعلنتها رئيسة الوزراء تيريزا ماي الأسبوع الماضي مليئة بالعيوب ولا يمكن أن تحظى بتأييد الاتحاد، إلا أنها أوصلت المواجهة بين مؤيدي ومعارضي البريكست إلى ساعة الحقيقة.

الخطة لم تبتعد سوى خطوات ضئيلة عن موقف صقور البريكست، واكتفت بالبحث عن حل لحركة السلع من أجل تجاوز مأزق الحدود بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا والتي تنذر بتفتت المملكة المتحدة.

لكن تلك الخطوة الخجولة أدت إلى استقالة أبرز صقور البريكست مثل وزير الخارجية بوريس جونسون ووزير شؤون البريكست ديفيد ديفس وعدد كبير من المسؤولين الآخرين، فكيف لو فتحت الملفات الأخرى الأكثر خطورة على الاقتصاد البريطاني.

ولم تقف الاحتجاجات على الخطة عند أنصار البريكست بل امتدت إلى معارضي الانفصال، لأنها استثنت مصير القطاع المالي، أكبر مساهم في الناتج المحلي البريطاني، والذي يعني موت حي المال في لندن وتداعيات هائلة يمكن أن تقوض الاقتصاد البريطاني.

البريكست يشبه التصويت لنقل الجزر البريطانية إلى موقع آخر من المحيط الأطلسي، أي أنه غير قابل للتنفيذ مهما كان حجم تأييده في الشارع البريطاني.

لم يكن أمام حكومة رئيسة الوزراء تيريزا ماي سوى الضياع في متاهة البحث عن مخرج من ورطة البريكست، مهما كانت تشكيلة الحكومة وتوازناتها بين صقور البريكست ومؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي. ما كان الأمر ليختلف في شيء، حتى لو كان جميع وزراء الحكومة من أعتى صقور البريكست مثل نايجل فراج الزعيم السابق لحزب الاستقلال أو بوريس جونسون، اللذين كانا العامل الحاسم في ورطة البريكست.

أي حكومة أخرى ما كانت لتفعل أكثر مما فعلته تيريزا ماي، لأن الطلاق مع الاتحاد الأوروبي يكاد يكون مستحيلا، وهو ما يكشفه المخاض العسير الذي تمر به بريطانيا لكي تصحو من ذلك الكابوس.

صورة الجدل اليوم تختلف بدرجة هائلة عما كان عليه الحال قبل عامين وسوف يزداد اشتعالا مع اقتراب مهلة التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي في أكتوبر المقبل والتوجه إلى موعد الطلاق في 29 مارس المقبل.

يدرك معظم المسؤولين والخبراء حجم الألم الذي سيتعرض له الاقتصاد البريطاني في هذا المخاض، لكنهم يدركون أيضا أنه ألم إجباري لإقناع من صوتوا للانفصال بأنه مستحيل التنفيذ.

ورطة البريكست قسمت الشعب البريطاني إلى معسكرين، معظم المعسكر الأول من الغاضبين والعاطلين عن العمل والمعادين للأجانب والعنصريين، في حين أن معظم الخبراء ورجال الأعمال والمصرفيين والأكاديميين والشركات في المعسكر الثاني.

لا يدرك أنصار البريكست أن إعادة حركة التاريخ إلى الوراء أمر مستحيل، فحركة التجارة وتبادل الخدمات والأموال ومئات التفاصيل الأخرى تختلف كليا اليوم عما كانت عليه قبل 20 أو 40 عاما، وأن العودة إلى الماضي ستعني انهيار الاقتصاد البريطاني.

ولو تولى رئاسة الحكومة خلال العامين الماضيين أي خبير يدرك حجم الضرر، الذي سيلحق بالاقتصاد، فإنه ما كان ليستطيع الانقلاب على البريكست، لأن ذلك قد يؤدي إلى انقسام المجتمع وزعزعة استقرار البلد.

ليس بالإمكان إقناع أنصار البريكست بضرورة التراجع عنه إلا بوسيلة واحدة، هو رؤية آلام مخاض الانفصال وبدء انسحاب الشركات والمصارف من بريطانيا وانحدار الجنيه الإسترليني والقطاع العقاري. حينها فقط ستصل النار إلى جيوبهم ويمكن العودة لإجراء استفتاء ثان لإلغاء ورطة البريكست.

بريطانيا مقبلة حتما على رؤية تلك الآلام مع بدء العد التنازلي للمواعيد المثبتة للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وقد تسارع المخاض منذ نهاية الأسبوع الماضي بإعلان ما يمكن إعلانه الآن فقط.

الحديث عن إجراء استفتاء ثان لم يعد من المحرمات الكبرى، بل وصل إلى داخل حزب المحافظين، ولم تعد رئيسة الوزراء قادرة على اتخاذ أي خطوة في البرلمان إلا إذا اعتمدت على تأييد أحزاب المعارضة.

وهناك عدد كبير من التحولات الأخرى، التي أصبحت تمهد الطريق للانقلاب على البريكست، مثل فرض اللجنة المشرفة على الانتخابات الثلاثاء غرامة على حملة مؤيدي البريكست لانتهاكها قواعد الإنفاق في الاستفتاء الذي جرى في 23 يونيو 2016.

وتوجه تلك الغرامة ضربة قوية للتشكيك في نتائج الاستفتاء. وقد شجع ذلك شخصيات كبيرة في حزب المحافظين للخروج عن صمتها والانضمام لمعسكر معارضي البريكست.

ووجهت وزيرة التعليم السابقة في حكومة المحافظين جاستين غرينينغ انتقادات لرئيسة الوزراء، ووصفتها بأنها “ضعيفة” ودعت لإجراء استفتاء ثان على مغادرة الاتحاد الأوروبي.

ولم يقف الأمر عند تصاعد الأصوات لإسقاط تيريزا ماي عن رئاسة الحكومة بل امتد إلى الحديث عن إجراء انتخابات مبكرة رغم خشية حزب المحافظين من خسارة الانتخابات في ظل الانقسامات العميقة داخل الحزب.

وقبل ذلك حذر اتحاد غرف التجارة البريطانية من أن صبره يكاد ينفذ من تخبط الحكومة في ملف البريكست. وانضمت شركات عملاقة لديها أعمال واسعة في بريطانيا مثل شركة إيرباص للتحذير من أنها ستغادر بريطانيا إذا خرجت من السوق الأوروبية الموحدة.

وأظهر تقرير لصحيفة فايننشال تايمز أن معظم الشركات البريطانية بدأت تبحث عن موطئ قدم داخل الاتحاد الأوروبي لتفادي التداعيات الخطيرة للانفصال عن أكبر شريك تجاري للبلاد.

وصب الاتحاد الأوروبي أمس المزيد من الزيت على النيران البريطانية بمطالبة الدول الأعضاء بالاستعداد لمواجهة الاضطراب الناجم عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون التوصل لاتفاق.

كل ذلك يجعل إجراء انتخابات مبكرة أو استفتاء آخر على ورطة البريكست مسألة وقت لا أكثر. وسيكون التراجع عنه أمرا حتميا.

10