المحاسبة الانتقائية تبقي على الفساد داخل وكالة الإعلان الحكومي في الجزائر

الجزائر - اقتصرت التحقيقات القضائية في ملف الوكالة الوطنية للنشر والإشهار المحتكرة للإعلان الحكومي في الجزائر على حقبة معينة، ما فتح الباب أمام تأويلات حول رغبة السلطة في احتواء الموقف بالتضحية بمرحلة معينة من حياة المؤسسة من أجل التغطية على مراحل سابقة ومسؤولين آخرين، على الرغم من كون الفساد وسوء التسيير والتلاعب الممنهج تعود إلى فترة تأميمها في مطلع تسعينات القرن الماضي.
وأمر القضاء الجزائري بسجن مسؤولين سابقين في الوكالة الوطنية للنشر والإشهار ووضع آخرين تحت الرقابة، وعلى رأسهم وزيران سابقان للاتصال خلال حكومات الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، لكن الغموض لا زال يكتنف الخطوة، على اعتبار أن الفساد في المؤسسة المذكورة لم يبدأ مع هؤلاء المسؤولين فقط، بل يمتد إلى نشأتها ولازال ساريا إلى حد الآن، مما يجعل المحاسبة تحمل صبغة انتقائية وتصفية حسابات لا غير.
وأعلن مجلس قضاء العاصمة الجزائر عن استكمال التحقيقات التي وصفها بـ"المعمقة" في قضية الفساد المالي والتلاعب داخل الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، وهي العملية التي أشرفت عليها مصالح الأمن الداخلي التابعة لجهاز الاستخبارات، وقد تم الإقرار بسجن عدد من المسؤولين ووضع آخرين رهن الحبس المؤقت.
◙ الوكالة التي أنشئت من أجل احتكار الإعلان الحكومي ظلت تُوظف في تدجين الإعلان المحلي وحصر توجهاته في مساندة خيارات السلطة
ويتعلق الأمر بوزيرين سابقين للاتصال خلال حكومات الرئيس الراحل بوتفليقة، وهما جمال كعوان الذي شغل أيضا منصب مدير الوكالة والذي تقررت إحالته إلى السجن، وحميد قرين الذي وضع تحت الرقابة القضائية، كما سجن مدير آخر وهو أمين شيتر، وكوادر أخرى من الوكالة.
وذكر بيان النائب العام بأن المسؤولين المذكورين متورطون في "تمكين جرائد مجهرية من الاستفادة من حصص إشهارية، واستفادة جرائد لا وجود لها من حصص إشهارية، واستفادة الجرائد من الإشهار من دون تحقيق الهدف المنشود، وتفضيل عناوين صحافية على أخرى بتواطؤ من مسؤولين في الوكالة".
وأعاد الملف تسليط الأضواء على إحدى أكبر بؤر الفساد المالي والسياسي في البلاد، فمنذ نشأتها مطلع تسعينات القرن الماضي وُظّفت الوكالة في ترويض وسائل الإعلام المحلية وتوجيه خطوطها التحريرية إلى مساندة خيارات السلطة، كما كانت محل شبهات فساد وسوء تسيير وتلاعب بالمال العام.
وظلت الوكالة التي أنشئت من أجل احتكار الإعلان الحكومي تُوظف في تدجين الإعلان المحلي وحصر توجهاته في مساندة خيارات السلطات المتعاقبة، وبواسطتها استطاعت السلطة الضغط والتحكم في الإعلام المحلي وحتى مساومة منابر إعلامية أجنبية، حيث تغدق بالأموال الطائلة على من يسير في خطها وتخنق المؤسسات والعناوين التي تتمرد عليها.
وحسب بيانات سابقة فإن الوكالة تدير غلافا ماليا يقدر بنحو 250 مليون دولار سنويا، يوزع في شكل إعلانات للمؤسسات والإدارات الحكومية، غير أن نية السلطة في توظيف المال لتطويع الخطوط الافتتاحية للمنابر الإعلامية فتح المجال أمام استشراء فساد كبير داخل الوكالة، فلم يعد الأمر يقتصر على توجيه العناوين الصحافية، بل تعداه إلى تلاعب يدار على مختلف المستويات العليا في الدولة.
وكان المدير السابق للوكالة العربي ونوغي قدم إفادات لمّا نصّب على رأس المؤسسة العام 2020 حول وجود فساد وتلاعب كبيرين في إدارة الإعلانات الحكومية، وعن وقوف شخصيات نافذة في السلطة وراء العديد من العناوين التي أطلقت للاستفادة من الريع وليس لأداء رسالة إعلامية.
وذكر ونوغي بأن "ضباطا سامين في المؤسسة العسكرية، كما هو الشأن بالنسبة إلى قائد الجيش الراحل الجنرال أحمد قايد صالح، ونواب برلمانيين كعبدالحميد سي عفيف، ورجال أعمال كعلي حداد، ونجوم فن ورياضة كاللاعب الدولي السابق رابح ماجر، وغيرهم من الشخصيات والوجوه النافذة، يملكون صحفا حازت على الملايين من الدولارات على مرّ السنوات".
فالنهب الممنهج لمقدرات المؤسسة العمومية أسال لعاب الكثير من الفاعلين، بمن فيهم أسماء لا علاقة لها تماما بالإعلام، وشجع طبقة من الانتهازيين بتواطؤ مسؤولين سامين في الدولة على إطلاق العديد من العناوين الصحافية داخل المؤسسة الواحدة، وحتى قنوات تلفزيونية مقرها في الخارج، حازت على حصص ضخمة من الإعلان الموجه لصحفها من أجل تمويل غير مباشر لتلفزيوناتها.
ولم يذكر بيان مجلس القضاء الفترة التي شملها التحقيق، وإن كان سيشمل مراحل ومسؤولين آخرين بما في ذلك المرحلة الحالية، وهو ما يعطي الانطباع أن المسألة تتعلق بحقبة زمنية تتصل بالمرحلة السياسية للرئيس الراحل بوتفليقة، على اعتبار أن المعنيين بالسجن والرقابة القضائية ينتمون كلهم إليها، مما يبقي الشك حول الطابع الانتقائي للعملية، في حين أن الفساد والتلاعب لازالا مستمرين حتى خلال حقبة الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون.
وقال ناشرٌ فضّل عدم الكشف على هويته في تصريحات لـ"العرب" إن "العبرة ليست في الكم الذي تتشدق به السلطة (180 صحيفة يومية)، وإنما العبرة بالنوعية وبالقدرة على التأثير وتوجيه الرأي العام، وإن الحل بيد السلطة، لكنها لا تريده لأن إشاعة أجواء الحرية والشفافية سيكون أول انقلاب عليها".
وأضاف أن "نفس الممارسات لازالت تدار بها الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، وإذا كانت في السابق تحت تأثير جهاز الاستخبارات فإنها الآن تحت تأثير مؤسسة الرئاسة، وللأسف خطاب السلطة حول إقامة دولة الحق والعدل والقانون لا يستقيم مع الممارسات القائمة في المؤسسة المذكورة، فالفساد والتلاعب والولاءات الآن أكثر بكثير مما كان سابقا".