المجتمعات تحتاج إلى الغناء والموسيقى لتحديد هويتها الثقافية

باحثون ومثقفون عمانيون: الأغاني مرآة المجتمع وتاريخه المسموع والمرئي.
الثلاثاء 2022/09/20
الموسيقى إرث حضاري وهوية الشعوب

للفنون أدوار هامة في الحفاظ على الهوية الثقافية والتعريف بها، ولعل الموسيقى الشعبية بشكل خاص من أكثر الفنون التي تساهم في حفظ ملامح الهوية الثقافية لكل شعب، لما تمثله من التقاء بين اللحن والكلمة ومن انتشار واسع أيسر من التواصل اللساني. وهذا ما يجعل الموسيقى أداة ثقافية هامة.

خميس الصلتي

مسقط - عندما نتحدث عن الخصائص الفنية والمميزات التي تسهم في إبراز الهويات الثقافية من أجل إنتاج موسيقى الشعوب المختلفة والمحافظة عليها، فنحن نتحدث عن تشكل لإرث نوعي يسهم في نقل صورة من صور التماهي بين الفرد ومجتمعه.

وعلى العموم فإن الكثير من الدول سعت إلى أن يكون الفن جزءًا واقعيًّا لا يتجزأ من ثقافاتها المتعددة، كالملبس والمأكل وأدوات التواصل مع الآخرين. هنا نطرح التوجهات التي تعزز واقعية تلك الفكرة للتعرف على آراء المختصين بشأنها.

مرآة ثقافية واجتماعية

هناك عدة مفردات تسهم في إبراز الهوية الثقافية للمجتمعات، ومن أبرزها الفنون الشعبية أو التقليدية كالموسيقى

في البداية تقول الشاعرة والأديبة سعيدة بنت خاطر الفارسية “أرى أن الحرص على الهوية الثقافية والانتماء إلى مكان وبيئة ما وعدم الذوبان في ثقافة الآخر وتقليده هو الذي يميز موسيقى الشعوب وفنونها، ولكل شعب بصمته التي يجب ألا تذوب في ظل الهيمنة العالمية لإيجاد تفوق لجنس ما دون آخر”.

وتضيف “الموسيقى الهندية مثلا لا ينكر أحد نكهتها وتميزها ومن ثم انطلاقها إلى العالمية تمامًا كما حدث مع الموسيقى المغربية التي شقت طريقها إلى العالمية بروحها الشعبية وحرصها على لونها الخاص وتجسيد هويتها الثقافية. ولا شك أن الخصائص الفنية الموسيقية، المتمثلة في الصوت والإيقاع والانسجام والتنوع الثقافي والقدرة التعبيرية وقابلية هذه الإيقاعات للتطور والمزج، هي ما يمنح تلك الموسيقى استمرارية صوتية ممتعة للأذن البشرية، كما يمنحها انطلاقة عالمية متفردة”.

وبخصوص حرص المجتمعات على المحافظة على موسيقاها وتأثير ذلك على الثقافة العامة لأي مجتمع تقول الفارسية “تحرص الشعوب على إرثها الحضاري عمومًا؛ لأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياق الاجتماعي والثقافي الذي نشأت فيه، وهي قادرة على أن تعكس خصوصية مجموعة ثقافية ما وتعكس أصولها وتاريخها وتجسد لنا شخصيتها، بسبب طبيعتها وقدرتها التعبيرية والثقافية، ولهذا فإن الموسيقى قادرة على التقريب بين المجتمعات المختلفة من خلال خصائصها، وللموسيقى قدرة على استثارة المشاعر وتهذيب العواطف الإنسانية، وهذا يجعل المتعة تنساب عبر تذوقنا لما نستمع إليه ونستمتع به، وهو الأمر الذي يجعل الأطفال يرددون إيقاعاتها ويتربّون على ذائقتها. وتحرص الشعوب على موسيقاها لأنها تسافر دون أن تعترف بالحدود المانعة، وتحلق بنا دون أجنحة. وينبغي للموسيقى أن تعبر عن الوجدان الوطني الذي يسعى المجتمع إلى أن ينبثق من رحم الأصالة والتمسك بالتراث”.

ويتحدث الأكاديمي حمد عبدالله الهباد، وهو باحث وموسيقي وعميد سابق في المعهد العالي للفنون الموسيقية بدولة الكويت، عن الكلمة والأغنية وموسيقاها قائلا “الفنون الغنائية على وجه الخصوص في كل عصر هي مرآة ثقافية واجتماعية تعكس اتجاهات الشعوب الفكرية وميولها، والأغنية تحديدًا ثمرة حلوة المذاق إذا كانت نابعة من وجدان المجتمع ومتقنة وخاضعة لأصول الصنعة، حيث أنها مادة نغمية سريعة الانتشار بجمالها وخفتها وعميقة التأثير بمعانيها، بل يزيد تأثيرها في النفس إذا كان مضمونها ملائمًا لحالة المتلقي النفسية؛ فعند ذلك تنفذ إلى أعماق النفس مثيرة الأشجان والأفراح والذكريات حيث توقظ المشاعر وتسترجع الذكريات، كما لو كانت شريطًا مسجلًا”.

إرث نوعي يسهم في نقل صورة من صور التماهي بين الفرد ومجتمعه
إرث نوعي يسهم في نقل صورة من صور التماهي بين الفرد ومجتمعه

ويضيف “تعتبر الأغنية لوحة صوتية تحكي صدى الماضي وتنقل الحاضر إلى آفاق المستقبل بتأملات وجدانية تضفي على حاضر المستمع بهجة وأملا. والأغاني تاريخ مسموع ومرئي ملموس من خلال الألحان التي تعكس الطابع الصوتي للمجتمع عبر اللهجة والألحان التي تحدد هوية كل منطقة جغرافية، وهي تاريخ مرئي يبرز من خلال الرقصات المصاحبة للفنون الغنائية وأشكال الأزياء التي تحدد هوية المجتمع، فالتراث الغنائي يجمع خصائص الفن الراقي الذي يهذب المشاعر ويرقى بالأحاسيس عبر تصويره للوجدان الإنساني وينميه بالمشاعر التي ميز الله الإنسان بها”.

وفي هذا السياق أيضا يقول الهباد “المجتمعات تحتاج إلى تحديد هويتها الثقافية من خلال الغناء كونه المادة التي تحفظ اللهجة المحلية، مثل ما نرى بيان الأزياء والعادات والتقاليد على سبيل القول، ففي منطقة الخليج العربي خصوصًا لنا سمة تاريخية في تنوع الهوية الغنائية، فهناك غناء البحر والصحراء والمدينة، وهذا ما يعبر عن نسيج تاريخي لحياة هذه المنطقة الجغرافية وأصالة شعوبها”.

أما الملحن والفنان الموسيقي فتحي محسن فله رأي قد لا يذهب بعيدًا عن الفكرة التي نحن بصددها، يقول “الهوية الثقافية لأي أمة أو مجتمع أو فرد وأسلوبيته تأتي نتاج تلك التراكمات الفكرية والأدوات الثقافية التي يتعايش معها الإنسان، وإذا أخذنا الموسيقى كمثال ثقافي بحت سنجد أن الهوية الموسيقية تنتقل جغرافيًّا، وهذا مرتبط بالتنقل البشري، ورغم تطورها علمًا وأداةً وتأثرًا وتأثيرًا بقواعد ولغة علمية موحدة، تبقى دالة بشكل مباشر على أسلوبية المجتمعات وخصوصية معظم أقطار العالم”.

ويضيف “تحتفي المجتمعات مفتخرة بأسلوبها الموسيقي الخاص وبفنانيها ومبدعيها، فتلامس من خلال الباحثين والمهتمين بشؤون الموسيقى دراسة التأليف الموسيقي والتلحين والغناء والأداء، والشعر والكلمات المصاحبة، والعزف والآلات المستخدمة ودواعي العمل الموسيقي وفلسفته والفنون والقوالب الموسيقية والنظام اللحني، والفنانين الممارسين والمؤلفين، والمصادر الموروث منها وأسلوب النقل والتوارث. وسلطنة عُمان مثال حقيقيً وبيئة خصبة بتنوعها الجغرافي، وطورت أساليب فنونها وامتزجت وأثرت وتأثرت أحيانا بشعوب تداخلت معها، وهنا يلمس الباحث الموسيقي هذا الثراء والتنوع الكبير الذي تحظى بها الفنون الموسيقية الموروثة في عُمان”.

الخصائص الفنية

الموسيقى قادرة على التقريب بين المجتمعات المختلفة من خلال خصائصها وتستطيع استثارة المشاعر وتهذيب العواطف الإنسانية
الموسيقى قادرة على التقريب بين المجتمعات المختلفة من خلال خصائصها وتستطيع استثارة المشاعر وتهذيب العواطف الإنسانية

يسعى محسن ليكون أكثر قربًا من الموسيقى العمانية في هذا السياق ويشير إلى ثلاث خصائص ثقافية تتميز بها تلك الفنون، وهي التنوع والثراء في الكم والكيف، بسبب التنوع الجغرافي، فنرى البيئة الساحلية والصحراوية والجبلية والزراعية، مرورًا بارتباط ذلك كله بالسفر والتجارة، مما نتجت عنه فنون مرتبطة بالترحال والسفر وأخرى بالعمل الزراعي وغيرها بالمناسبات الاجتماعية، مع بيان كل منطقة وهويتها الثقافية المحددة.

ومن بين الخصائص أيضًا العراقة التاريخية، فعُمان لها امتداد تاريخي تجاوز آلاف السنين، إذ بمرور السنين تطورت الحياة والمشهد الثقافي، ونتج عن ذلك تأثير واضح على حياة الناس، أوجد ممارسات فنية ذات تركيبات فنية تعبيرية يتشارك فيها الجنسان وبصياغة موسيقية منسقة ومتوافقة مع الأداء الإيقاعي والنغمي المصاحب. أما الخاصية الثالثة فتتمثل في الالتزام الشعبي بممارسة الفنون، لارتباطها بالأعراف والجوانب الحياتية اليومية للمجتمع مثل المناسبات الاجتماعية، وأخرى وطنية وتثقيفية وترفيهية وتنموية تشجعها المؤسسة الرسمية المعنية بالفن والثقافة في سلطنة عُمان، وهذا ما يولد الانسجام والتناغم بين الفن والمجتمع خاصة إذا تطرقنا إلى سبل الترفيه.

الفنون الغنائية هي مرآة ثقافية واجتماعية تعكس اتجاهات الشعوب الفكرية وميولها

أما الباحث راشد الهاشمي فيشير إلى الخصائص الفنية والمميزات التي تسهم في إبراز الهويات الثقافية من أجل إنتاج موسيقى الشعوب المختلفة ويقول “هناك عدة مفردات وخصائص تسهم في إبراز الهوية الثقافية للمجتمعات، وتعد الفنون الشعبية أو التقليدية من أبرز تلك المفردات، وهي تتمتع بالعديد من الخصائص الفنية التي تميز هوية كل مجتمع، ومن أهم تلك الخصائص ما يسمّى بالضرب الإيقاعي، حيث يعد الإيقاع من أبرز وأوضح الخصائص الفنية في موسيقى الشعوب، ففنوننا الشعبية العمانية -على سبيل المثال- زاخرة وثرية بأنواع عديدة من الضروب والأوزان والتفعيلات الإيقاعية، وبهذا تمثل مصدرًا ثريًّا لا ينضب يمكن الاستفادة منه في إنتاج أعمال موسيقية وغنائية، بالإضافة إلى النموذج اللحني”.

ويرى الهاشمي أن الألحان الشعبية رغم بساطتها وصغر تكوينها تمثل مصدرًا ثريًّا ومهمًا، والاستفادة منها كنماذج لحنية يمكن تنمية فكرتها لتكون من دعائم إنتاج أعمال موسيقية وغنائية عالمية تبرز الهوية الثقافية والحضارية للمجتمعات المختلفة، مرورًا بالطابع اللحني. ويعد الطابع اللحني لكل فن من الفنون مصدر ثراء ووحي وإلهام وخيال للمبدع والمؤلف الموسيقي، الذي يستطيع أن يصيغ ألحانا تبرز ما يجول في مخيلته من صور جمالية استوحاها من الطابع والمناخ الإبداعي لتلك الفنون.

وبشأن حرص المجتمعات على المحافظة على موسيقاها وتأثير ذلك على الثقافة العامة يقول الهاشمي إن “الثقافة والفنون بصفة عامة هي نتاج ثقافي حضاري بحت، ولذلك فإن حرص المجتمعات البشرية على الاهتمام والمحافظة على هذه الفنون هو وسيلة من وسائل محافظة تلك المجتمعات على كينونتها وثقافتها وحضارتها وأسلوب حياتها من عادات وتقاليد وأعراف”.

ويتابع “الفنون التقليدية في سلطنة عُمان -مثلا- تمثل أسلوب حياة، فهي مصاحبة للعُماني في الكثير من أحواله ووسيلة تعبيرية عن فرحه وترحه، وسلمه وحربه، وعمله واسترخائه، وحله وترحاله، ولذلك فهي هوية ثقافية مجتمعية تدخل في الكثير من تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع العماني، والمحافظة عليها إنما هي محافظة على كل ما يرتبط بتلك الفنون من عادات وتقاليد وأنشطة وأعمال وحرف، والتقصير في رعاية تلك الفنون بلا شك سيفقد المجتمع الكثير من هويته الثقافية المميزة له، وخاصة في ضوء ما يسود العالم من عولمة وفضاءات مفتوحة لا حدود لها وبها ما بها من السلبيات والأفكار التي لا تمت لمجتمعنا بأي صلة، والتي لا يمكن تلافي مخاطرها أو التقليل من حدتها على الأقل إلا بربط أبناء المجتمع بكل مفردة من مفردات ثقافته وحضارته المتوارثة، معززين بذلك انتماءه إلى مجتمعه ووطنه”.

13