المثقف والاستهلاك

أين يتموضع المثقّف في واقع الاستهلاك؟ هل يكون حلقة من حلقات السوق أم تراه يخرج عن هذه الدائرة ويقوم بالتمرد عليها لعيش عالمه المنزوي؟
ربّما بات تعريف ابن خلدون الشهير للأدب بأنه الأخذ من كل علم بطرف مع التفقّه في أحد العلوم ضرباً من ضروب الحديث عن أديب مثقّف مغيّب في عالم يلهث وراء قيم تفرضها الأسواق، ومواصفات تمليها لعبة الاستهلاك والتسويق.
لا يخفى أن واقع العولمة فرض أنماطه وتعريفاته الجديدة المتوافقة مع كسر الحدود والعبور إلى جميع الأماكن التي توصف كأسواق قبل أي توصيف آخر، كما لا يخفى أن الثقافة مفهوم شامل متخلّل مختلف مناحي الفكر والأدب والحياة.
وقد تحدث مفكرون كثر عن أدوار المثقفين، ومنهم مَن وصفوهم بالانتهازيين والخونة -إدوارد سعيد كتب عن خيانة المثقفين أكثر من مرة، وفي سياق مختلف- كما عالج الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان (1925 – 2017) في أكثر من كتاب له مفهوم الثقافة في عالمنا المعاصر، وكيف تم التلاعب به، وتطويعه لصالح الاستهلاك، والإيحاء بأنه بات مطالباً بالإغراء لا بالتنوير، وبالتحفيز على الاقتناء والاستهلاك لا بالحض على التغيير.
ووجد أن الثقافة تحولت بذلك من باعث وحافز إلى مسكن ومهدئ، ومن ترسانة حديثة إلى مستودع لمنتجات المواد الحافظة. صارت الثقافة اسماً للوظائف المعهودة لأجهزة الحفاظ على الاستقرار والتوازن والاتجاه، وفي وسط هذه الوظائف قصيرة الأجل جرى الإمساك بالثقافة وتعطيل حركتها وتسجيلها وتحليلها، كما أشار إلى ذلك الفرنسي بيير بورديو في كتاب له عن التمييز.
انتقد باومان أدوار المثقفين اللاهثين وراء عجلة الاستهلاك، ومن أصبحوا أداة من أدوات السوق نفسها، وكيف أن التصدي للوضع الراهن يتطلب شجاعة، لا سيما على ضوء القدرة الرهيبة التي تمتلكها القوى المؤيدة للوضع الراهن، وواقع أن الشجاعة سمة فقدها المثقفون الذين كانوا معروفين بالجرأة أو الشجاعة البطولية الجريئة الواضحة.
كما وصف أنه من المغري أن ننظر إلى هذه النسخة المسماة بخيانة الكهنة باعتبارها تفسيراً كافياً للغز المحير المتمثل في التخلي المفاجئ من جانب الطبقات المتعلمة عن المسؤولية المشتركة تجاه أمور البشر والمشاركة في الاهتمام بها، والتحول إلى أداة في حلقة التضليل والتسليع المتفشية.
ربّما يكون المثقف المعاصر أمام سؤال مربك: هل يقاوم اللهاث وراء الاستهلاك فيخرج خارج اللعبة أم يحاول التأقلم وفق شروطها ويغدو إحدى أدواتها ويستفيد من امتيازاتها ويدور في عجلتها الطاحنة..؟