المثقف العربي يدس أنفه في أوهام الآخرين

يُثير توصيف المثقف جدلاً واسعاً، وربما سجالاً طويلاً حول تعريفه، وحول وجوده في الوظيفة وفي السياق والفاعلية والمعنى، وهذا ما يجعله شخصاً خلافيّا وسط عالمٍ تسوده الكثير من مظاهر الصراع الاجتماعي والأيديولوجي، فضلا عن مظاهر الجهل والغلو، والتي تُخضعه لحساسيات قد تتهمه بالمروق، أو تدفعه إلى البحث عن هويته العضوية الضائعة. لكن أخطر ما يُتهم به المثقف هو الدسيسة، أي هو الشخص الذي “يدسّ أنفه” في كل شيء.
الثلاثاء 2017/08/01
ماذا أفعل وأين وجهي؟ (لوحة للفنان هاني مزهر)

“المثقف الذي يدسّ أنفه” هو عنوان الكتاب الجديد للكاتب سعد محمد رحيم، والذي استعاره الكاتب من الفيلسوف جان بول سارتر، ليكون دالته في ترسيم توصيفات المثقف الباحث والمتورط بصناعة الخطابات المستعملة وغير المستعملة، أو المثقف النخبوي والمسلكي، أو حتى المثقف الأيديولوجي والتنويري والديني، أو المعارض والموالي، أو الموهوم بشعارات الحرية واليسار والحداثة.

تضمن الكتاب مدخلا رؤيويا لتوصيف “وجود المثقف في المجتمع والعالم” وأربعة أقسام انحنت على مجموعة من المباحث التي قارب فيها المؤلف أسئلة المثقف وإشكالاته، وناقش موضوعات لها أثرها في تمثلات وعيه للحداثة وقيمها، وطبائع علاقاته الفكرية والإنسانية وغيرها.

وعود التنوير

شمل القسم الأول مناقشة المؤلف لموضوع “الأنسنية في أفق ثقافتنا” عبر التعرّف على نشأتها، وعلى تداولية مفاهيمها التي تخصّ “الذات الفردانية والعقل والحرية”، وعبر استقراء علاقتها بالسلطة والجسد وبقيم الحداثة، وما بعد الحداثة، فضلا عن مناقشة “مآلات الأنسنية في الفكر العربي الحديث” من خلال استبطان تمثلاتها في “فكر النهضة العربية” أو من خلال تأثراتها بـ”فكر التنوير الأوروبي” و”مبادئ الثورة الفرنسية” والأطروحات الماركسية، إذ انعكست هذه التمثلات على تمظهرات الفكر القومي النهضوي، وهواجس الإصلاح الديني والسياسي. ورغم بروز بعض مظاهر الفكر الليبرالي وبروز ممارسات محددة للعلمانية، إلّا أنّ الجدل حولها ظلّ ساخناً، ومُلتبساً، وخاضعاً لمؤثرات السلطة، وللكثير من المرجعيات الأيديولوجية والدينية الأصولية.

في مبحث “لماذا تعثّر الفكر الألسني في الفضاء الثقافي العربي” يضعنا المؤلف أمام أطروحات مفارقة، بعضُها يخصّ التاريخ، وبعضها يخصّ نمطية الخطاب الثقافي المعرفي، فضلا عمّا يخصُّ ضعف البنى الثقافية المؤسساتية.

القسم الثاني من الكتاب، الصادر عن دار سطور ببغداد، استبطن مقاربة المؤلف لمفهوم التنوير، ولصراعات الهوية، إذ عمد إلى مناقشة مرجعيات هذا المفهوم والصراع حوله، وطبيعة تمثلاتهما في الفكر العربي، على مستوى السيرورات، أو على مستوى تحولهما إلى مصدر لإنتاج العنف الهوياتي، حيث تتبدى هيمنة مظاهر القوة/ السلطة/ الجماعة لإنتاج سرديات الهوية، مقابل تقاطعها مع التاريخ ومنتجاته، وضعف “الاستثمار السياسي لما هو إنساني” والذي جعل من الظاهرة الثقافية تعبيرا عن “الهجنة” التي تعيشها الهوية، وخضوعها لتداعيات “العلاقة ما بين المُستعمِر والمُستعمَر بالاعتماد المتبادل بعضهما على بعض، حتى في صياغة هويتيهما”.

المُستعمِر والمُستعمَر يتصارعان ويتنافسان على صناعة الهوية

أزمة فهم التنوير هي المدخل الذي طرح من خلاله المؤلف رؤيته للعلاقة بين الأنا والآخر إذ يمهد هذا الفهم أفقاً لفكِّ الالتباس الذي يخصُّ مركزية الآخر، وهشاشة الأنا، والذي يعني وجود عقدة في التعاطي مع إشكالات فهم هذا التنوير الذي يرتبط برسالةِ وقوةِ الآخر الكولونيالي، ونظرته إلى التمدّن والتحضّر، وللقبول بفلسفاته ونظراته لمفاهيم الحق والعدل والأخلاق والدولة والهوية والعلم، والتي قادت المؤلف إلى طرح أسئلته “عن أي تنوير نتحدث؟ وهل هو التنوير المستعار من تاريخ الفكر للآخر الغربي وتجربته؟ أم التنوير مثلما نجد له قبسات في تراثنا الفكري؟”.

هذه الأسئلة تحولت إلى مصدر لإثارة الخلاف، ولإنتاج ظاهرة الصراع، والهويات المغلقة/ الهويات القاتلة كما يسميها أمين معلوف، لأن الاختلاف سيتحول إلى صراع، وأنّ فرضية التنوير و”اللبرلة الفكرية والسياسية” ستكون أمام رعب ثقافي وهوياتي وأصولي، من الصعب مواجهة تأويلاته، ومنازعاته السياسية والدينية، تلك التي تفرض تمثلاتها في المقدس أو في المخيال العربي، أو حتى في الخطاب السياسي/ الحاكمية، أو في الخطاب الثقافي ذاته..

خطورة الدسيسة

انخرط المؤلف في القسم الثالث من الكتاب بمناقشة ظاهرة “المثقف الذي يدسّ أنفه” والتي تتجاوز حدود ما هو اجتماعي أو أنثربولوجي لتضعنا أمام مجموعة من الصور التي يتمثلها “المثقف” في وجوده داخل السياق، أو خارجه، أو بوصفه المهني، أو في تمثلاته وأقنعته التي اقترح وجودها بعض المثقفين المصابين بهاجس القلق الثقافي/ الهوياتي أمثال إدوارد سعيد وفرانز فانون وهومي بابا وسبيفاك؛ إذ يعيش هذا المثقف عُقد واستيهامات ما بعد الكولونيانية، والبحث عن هويته، وعن خصوصيته وقدرته على صناعة الظاهرة الوطنية للثقافة، أو النأي بالنفس عن الهوامش الضاغطة، تلك وضعها هؤلاء في سياق محنة الهوية والذات والعلاقة غير المتوازنة مع الآخر. فالمثقف كما يرى بعضهم بلا “منطقة” واضحة، و”الحيز العمومي” لا يمنحه ثقة بوجوده، ولا فرادة له في عمله، كما أنّ “السوسيوسياسة” في الشرق لا تتيح له مجالا خاصا للتعبير عن وجوده في الخارطة الاجتماعية، لذا تأخذ انشغالاته في السياسة وفي الأيديولوجيا والتحزّب، وحتى في المثيولوجيا بُعدا تعويضيا لمواجهة التحدي العمومي، أو الاغتراب الهوياتي.

صورة المثقف العراقي لم تكن بعيدة عن التعرّض لأوهام “الدسيسة” من خلال الانهمام بالسياسة، إذ تحولت هذه السياسة إلى مجال “وطني” و”نقابي” فضلا عن كونها ممارسة في شروط “العضوية” أو في سياق التعرّف على ما يجري في العالم الذي يحوطه، والذي يدفعه -اضطرارا- إلى التصدّي للكثير من العُقد التي لا علاقة مباشرة لها بـ”مهنة” الثقافة إنْ جازت التسمية.

فالمثقفون العراقيون، ومنذ عام 1921 وجدوا أنفسهم أمام خيارات صعبة، حيث وجد المثقف نفسه مدسوسا في الصراع السياسي ذي الصبغة الوطنية والثورية، وحيث طبيعة الواقع العراقي المشغول بالصراعات والتناقضات، وحيث الوظيفة الاجتماعية ببعدها النفسي والنخبوي والتطهيري والنقابي، والتي رهنت فاعلية النضج الثقافي بالنضج السياسي، وحيث القدرة على ممارسة الوظيفة المدنية بنوع من الحذر، والتوهم بما يسمى شعارات المثقف العضوي، والتي تمنح المثقف توصيفا سياسيا وقياديا أكثر مما تجعله أكثر تمثلا لوظيفته المعرفية والإبداعية.

صورة المثقف العراقي لم تكن بعيدة عن التعرّض لأوهام (الدسيسة) من خلال الانهمام بالسياسة، إذ تحولت هذه السياسة إلى مجال (وطني) و(نقابي)

يقودنا المؤلف إلى قراءة “تمثلات الحداثة” في البيئة الثقافية العراقية من خلال قراءة أطروحات فاطمة المحسن، عبر كتابيها “تمثلات النهضة” و”تمثلات الحداثة” وباتجاه استقصاء مفهوم التمثّل الثقافي، عبر إشكالات “النهضة” و”الحداثة” إذ شكلتا هاجسا ملتبسا للمثقفين، ولأيّ مشروع ثقافي، إذ تقول المحسن “إن ارتبط مشروع الحداثة العربية ببناء الدولة الوطنية، فقد كان النموذج العراقي شأنه شأن نماذج عربية أخرى”.

لكن هذا التمثّل لم يكن آمنا، لأنّ تحوّل الدولة وتفكك منظومتها جعلاها مصدرا لاضطهاد المثقف، وتهميش دوره، مقابل تمركز الدولة عبر منظومة السلطة والعسكر والأدلجة، وهو ما جعل المثقف متورطا في الانشغال بالمعارضة السياسية، وأكثر عرضة للاغتراب، والنفي، والحبس والقتل، وتحوّله إلى أنموذج للأضحية التي تم إخضاعها لشروط الانقلابات العسكرية، حيث زادت من تهميش المثقف، وعزل مؤسساته، وإخضاع التاريخ والمدرسة والمؤسسة ذاتها لتأطيرات قسرية، مقابل ذهاب المثقف إلى المزيد من الأوهام، بما فيها أوهام الحرية والثورة والحداثة غير المَحمية من أحد.

15